وَالْجِبَالَ تَكَادُ أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ لَوْ كَانَتْ تَعْقِلُ مِنْ غِلَظِ هَذَا الْقَوْلِ وَهَذَا تَأْوِيلُ أبي مسلم. ورابعها: أن السموات وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ كَانَتْ سَلِيمَةً مِنْ كُلِّ الْعُيُوبِ فَلَمَّا تَكَلَّمَ بَنُو آدَمَ بِهَذَا الْقَوْلِ ظَهَرَتِ الْعُيُوبُ فِيهَا أَمَّا قَوْلُهُ: أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي إِعْرَابِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا بَدَلًا مِنَ الْهَاءِ فِي مِنْهُ أَوْ مَنْصُوبًا بِتَقْدِيرِ سُقُوطِ اللَّامِ وَإِفْضَاءِ الْفِعْلِ أَيْ هَذَا لِأَنْ دَعَوْا أَوْ مَرْفُوعًا بِأَنَّهُ فَاعِلٌ هَدًّا أَيْ هَدَّهَا دُعَاءُ الْوَلَدِ لِلرَّحْمَنِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ تِلْكَ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ هَذَا الْقَوْلُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا كَرَّرَ لَفْظَ الرَّحْمَنِ مَرَّاتٍ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الرَّحْمَنُ وَحْدَهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ أُصُولَ النِّعَمِ وَفُرُوعَهَا لَيْسَتْ إِلَّا مِنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: دَعَوْا لِلرَّحْمنِ هُوَ مِنْ دَعَا بِمَعْنَى سَمَّى الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولَيْنِ فَاقْتُصِرَ عَلَى أَحَدِهِمَا الَّذِي هُوَ الثَّانِي طَلَبًا لِلْعُمُومِ وَالْإِحَاطَةِ بِكُلِّ مَنِ ادَّعَى لَهُ وَلَدًا أَوْ مِنْ دَعَا بِمَعْنَى نسب الذي هو مطاوعة مَا فِي
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ» .
قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّا بَنِي نَهْشَلٍ لَا نَدَّعِي لِأَبِ
أَيْ لَا نَنْتَسِبُ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً أَيْ هُوَ مُحَالٌ، أَمَّا الْوِلَادَةُ الْمَعْرُوفَةُ فَلَا مَقَالَ فِي امْتِنَاعِهَا، وَأَمَّا التَّبَنِّي فَلِأَنَّ الْوَلَدَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ شَبِيهًا بِالْوَالِدِ وَلَا مُشْبِهَ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ إِنَّمَا يَكُونُ لِأَغْرَاضٍ لَا تَصِحُّ فِي اللَّهِ مِنْ سُرُورِهِ بِهِ وَاسْتِعَانَتِهِ بِهِ وَذِكْرٍ جَمِيلٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً وَالْمُرَادُ أنه ما من معبود لهم في السموات وَالْأَرْضِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ إِلَّا وَهُوَ يَأْتِي/ الرَّحْمَنَ أَيْ يَأْوِي إِلَيْهِ وَيَلْتَجِئُ إِلَى رُبُوبِيَّتِهِ عَبْدًا مُنْقَادًا مُطِيعًا خَاشِعًا رَاجِيًا كَمَا يَفْعَلُ الْعَبِيدُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ خَاصَّةً وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا تَخْصِيصَ فِيهِ وَقَوْلُهُ: لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا أَيْ كُلُّهُمْ تَحْتَ أَمْرِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَقَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ مُحِيطٌ بِهِمْ، وَيَعْلَمُ مُجْمَلَ أُمُورِهِمْ وَتَفَاصِيلَهَا لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَأْتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُنْفَرِدًا لَيْسَ مَعَهُ مِنْ هؤلاء المشركين أحد وهم براء منهم.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٩٦ الى ٩٨]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا رَدَّ عَلَى أَصْنَافِ الْكَفَرَةِ وَبَالَغَ فِي شَرْحِ أَحْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ خَتَمَ السُّورَةَ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا وللمفسرين في قوله:
وُدًّا قولان: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ تَعَالَى سَيُحْدِثُ لَهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوَدَّةً وَيَزْرَعُهَا لَهُمْ فِيهَا مِنْ غَيْرِ تَوَدُّدٍ مِنْهُمْ وَلَا تَعَرُّضٍ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي يَكْتَسِبُ النَّاسُ بِهَا مَوَدَّاتِ الْقُلُوبِ مِنْ قَرَابَةٍ أَوْ صَدَاقَةٍ أَوِ اصْطِنَاعِ مَعْرُوفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ اخْتِرَاعٌ مِنْهُ تَعَالَى وَابْتِدَاءٌ تَخْصِيصًا لِأَوْلِيَائِهِ بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ كَمَا قَذَفَ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمُ الرُّعْبَ وَالْهَيْبَةَ إِعْظَامًا لَهُمْ وَإِجْلَالًا لِمَكَانِهِمْ، وَالسِّينُ فِي سَيَجْعَلُ إِمَّا لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ حِينَئِذٍ مَمْقُوتِينَ