الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: ثَمَانُ آيَاتٍ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ هِيَ خَيْرٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النِّسَاءِ: ٢٦] وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء: ٢٧] يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [النساء: ٢٨] إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النِّسَاءِ: ٣١] إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النِّسَاءِ: ١١٦] إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ/ ذَرَّةٍ [النِّسَاءِ: ٤٠] وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
[النِّسَاءِ: ١١٠] مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: ١٤٧] .
وَيَقُولُ مُحَمَّدٌ الرَّازِيُّ مُصَنِّفُ هَذَا الْكِتَابِ خَتَمَ اللَّه لَهُ بِالْحُسْنَى: اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا بِفَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ أَهْلًا لَهَا يَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ وَيَا أَرْحَمَ الراحمين.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠)
النَّوْعُ الثَّامِنُ: مِنَ التَّكَالِيفِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السورة.
اعْلَمْ أَنَّ فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ كَيْفِيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي النُّفُوسِ بِسَبَبِ النِّكَاحِ ذَكَرَ بَعْدَهُ كَيْفِيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ. وَالثَّانِي: قَالَ الْقَاضِي: لَمَّا ذَكَرَ ابْتِغَاءَ النِّكَاحِ بِالْأَمْوَالِ وَأَمَرَ بِإِيفَاءِ الْمُهُورِ وَالنَّفَقَاتِ، بَيَّنَ مِنْ بَعْدُ كَيْفَ التَّصَرُّفُ فِي الْأَمْوَالِ فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى خص الأكل هاهنا بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَتْ سَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ الْوَاقِعَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْبَاطِلِ مُحَرَّمَةً، لِمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنَ الْأَمْوَالِ: الْأَكْلُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النِّسَاءِ: ١٠] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الْبَاطِلِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا لَا يَحِلُّ فِي الشَّرْعِ، كَالرِّبَا وَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ وَأَخْذِ الْمَالِ بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَجَحْدِ الْحَقِّ. وَعِنْدِي أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَقْتَضِي كَوْنَهَا مُجْمَلَةً، لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلْتُمُوهَا بَيْنَكُمْ بِطَرِيقٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، فَإِنَّ الطُّرُقَ الْمَشْرُوعَةَ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مذكورة هاهنا عَلَى التَّفْصِيلِ صَارَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً لَا مَحَالَةَ. وَالثَّانِي:
مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ: أَنَّ الْبَاطِلَ هُوَ كُلُّ/ مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ لَا تَكُونُ الْآيَةُ مُجْمَلَةً، لَكِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، قَالُوا: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَحَرَّجَ النَّاسُ مِنْ أَنْ يَأْكُلُوا عِنْدَ أَحَدٍ شَيْئًا، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْخَلْقِ، فَنَسَخَهُ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ النُّورِ: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ [النور: ٦١] الْآيَةَ.
وَأَيْضًا: ظَاهِرُ الْآيَةِ إِذَا فَسَّرْنَا الْبَاطِلَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، تَحْرُمُ الصَّدَقَاتُ وَالْهِبَاتُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَخْصِيصٌ، وَلِهَذَا رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ مَا نُسِخَتْ، وَلَا تُنْسَخُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.