للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ زَعَمَتِ الْفَلَاسِفَةُ أَنَّهُ إنما قدم ذكر ما في السموات عَلَى ذِكْرِ مَا فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ الْأَحْوَالَ السَّمَاوِيَّةَ أَسْبَابٌ لِلْأَحْوَالِ الْأَرْضِيَّةِ، فَقُدِّمَ السَّبَبُ عَلَى الْمُسَبَّبِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْأَحْوَالِ الْأَرْضِيَّةِ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى الْأَحْوَالِ السَّمَاوِيَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَحْوَالَ السَّمَاوِيَّةَ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى خَلْقِ اللَّهِ وَتَكْوِينِهِ فَيَكُونُ الْجَبْرُ لَازِمًا أَيْضًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ فَأَعَادَ ذِكْرَ اللَّهِ فِي أَوَّلِ الْآيَتَيْنِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَأْكِيدُ التَّعْظِيمِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مِنْهُ مَبْدَأَ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِلَيْهِ مَعَادَهُمْ، فَقَوْلُهُ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْأَوَّلُ وَقَوْلُهُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ هُوَ الآخر، وذلك يدل إِحَاطَةِ حُكْمِهِ وَتَصَرُّفِهِ وَتَدْبِيرِهِ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، وَأَنَّ الْأَسْبَابَ مُنْتَسِبَةٌ إِلَيْهِ وَأَنَّ الْحَاجَاتِ مُنْقَطِعَةٌ عِنْدَهُ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: كَلِمَةُ (إِلَى) فِي قَوْلِهِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ لَا تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى فِي مَكَانِ وُجْهَةٍ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ رُجُوعَ الْخَلْقِ إِلَى مَوْضِعٍ لَا يَنْفُذُ فِيهِ حُكْمُ أَحَدٍ إِلَّا حُكْمُهُ وَلَا يَجْرِي فِيهِ قضاء أحد إلا قضاؤه.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٠ الى ١١١]

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (١١١)

فِي النَّظْمِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَنَهَاهُمْ عَنْ بَعْضِهَا وَحَذَّرَهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي التَّمَرُّدِ وَالْعِصْيَانِ، وَذَكَرَ عَقِيبَهُ ثَوَابَ الْمُطِيعِينَ وَعِقَابَ الْكَافِرِينَ، كَانَ الْغَرَضُ مِنْ كُلِّ هَذِهِ الْآيَاتِ حَمْلَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى الِانْقِيَادِ وَالطَّاعَةِ وَمَنْعَهُمْ عَنِ التَّمَرُّدِ وَالْمَعْصِيَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَرْدَفَ ذَلِكَ بِطَرِيقٍ آخَرَ يَقْتَضِي حَمْلَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الِانْقِيَادِ وَالطَّاعَةِ فَقَالَ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ كُنْتُمْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ خَيْرَ الْأُمَمِ وَأَفْضَلَهُمْ، فَاللَّائِقُ بِهَذَا أَنْ لَا تُبْطِلُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ، وَأَنْ لَا تُزِيلُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ هَذِهِ الْخَصْلَةَ الْمَحْمُودَةَ، وَأَنْ تَكُونُوا مُنْقَادِينَ مُطِيعِينَ فِي كُلِّ مَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ التَّكَالِيفِ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ كَمَالَ حَالِ الْأَشْقِيَاءِ وَهُوَ قَوْلُهُ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ [آل عمران: ١٠٦] وَكَمَالَ حَالِ السُّعَدَاءِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ [آل عمران: ١٠٧] نَبَّهَ عَلَى مَا هُوَ السَّبَبُ لِوَعِيدِ الْأَشْقِيَاءِ بقوله وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٠٨] يَعْنِي أَنَّهُمْ إِنَّمَا اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ بِأَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ، ثُمَّ نَبَّهَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا هُوَ السَّبَبُ لِوَعْدِ السُّعَدَاءِ بِقَوْلِهِ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ أَيْ تِلْكَ السَّعَادَاتُ وَالْكَمَالَاتُ وَالْكَرَامَاتُ إِنَّمَا فَازُوا بِهَا فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَفْظَةُ (كَانَ) قَدْ تَكُونُ تَامَّةً وَنَاقِصَةً وَزَائِدَةً عَلَى مَا هُوَ مَشْرُوحٌ فِي النَّحْوِ وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ كُنْتُمْ عَلَى وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ (كَانَ) هَاهُنَا تَامَّةٌ بِمَعْنَى الْوُقُوعِ وَالْحُدُوثِ وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى خَبَرٍ، وَالْمَعْنَى:

حَدَثْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ وَوُجِدْتُمْ وَخُلِقْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ خَيْرَ أُمَّةٍ بِمَعْنَى الْحَالِ وَهَذَا قَوْلُ جَمْعٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ الثَّانِي: أَنَّ (كَانَ) هَاهُنَا نَاقِصَةٌ وَفِيهِ سُؤَالٌ: / وَهُوَ أَنَّ هَذَا يُوهِمُ أَنَّهُمْ كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَأَنَّهُمْ مَا بَقُوا الْآنَ عليها.