لَا يُرِيدُ الظُّلْمَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ كَانَ لقائل أن يقول: إنما نُشَاهِدُ وُجُودَ الظُّلْمِ فِي الْعَالَمِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ وُقُوعُهُ بِإِرَادَتِهِ كَانَ عَلَى خِلَافِ إِرَادَتِهِ، فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ ضَعِيفًا عَاجِزًا مَغْلُوبًا وَذَلِكَ مُحَالٌ.
فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَمْنَعَ الظَّلَمَةَ مِنَ الظُّلْمِ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْجَاءِ وَالْقَهْرِ، وَلَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ عَاجِزًا ضَعِيفًا لَا أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْهُمْ تَرْكَ الْمَعْصِيَةِ اخْتِيَارًا وَطَوْعًا لِيَصِيرُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ مُسْتَحِقِّينَ لِلثَّوَابِ فَلَوْ قَهَرَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ لَبَطَلَتْ هَذِهِ الْفَائِدَةُ، فَهَذَا تَلْخِيصُ كَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَرُبَّمَا أَوْرَدُوا هَذَا الْكَلَامَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَقَالُوا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَظْلِمَهُمْ أَوْ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ مِنْهُمْ أَنْ يَظْلِمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِكُمْ، لِأَنَّ مَذْهَبَكُمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ عَذَّبَ الْبَرِيءَ عَنِ الذَّنْبِ بِأَشَدِّ الْعَذَابِ لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا، بَلْ كَانَ عَادِلًا، لَأَنَّ الظُّلْمَ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَهُوَ تَعَالَى إِنَّمَا يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَاسْتَحَالَ كَوْنُهُ ظَالِمًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنْ يَظْلِمَ الْخَلْقَ وَإِنْ حَمَلْتُمُ الْآيَةَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ أَنْ يَظْلِمَ بَعْضُ الْعِبَادِ بَعْضًا، فَهَذَا أَيْضًا لَا يَتِمُّ عَلَى قَوْلِكُمْ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَتَكْوِينِهِ عَلَى قَوْلِكُمْ، فَثَبَتَ أَنَّ عَلَى مَذْهَبِكُمْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ وَالْجَوَابُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُرِيدُ أَنْ يَظْلِمَ أَحَدًا مِنْ عِبَادِهِ؟ قَوْلُهُ الظُّلْمُ مِنْهُ مُحَالٌ عَلَى مَذْهَبِكُمْ فَامْتَنَعَ التَّمَدُّحُ بِهِ قُلْنَا: الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى تَمَدَّحَ بِقَوْلِهِ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٥] وَبِقَوْلِهِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الْأَنْعَامِ: ١٤] وَلَا يلزم من ذلك صحة النوع وَالْأَكْلِ عَلَيْهِ فَكَذَا هَاهُنَا الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى إِنْ عَذَّبَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِلْعَذَابِ فَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ظُلْمًا فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ فِي صُوَرِ الظُّلْمِ، وَقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ أَحَدِ الْمُتَشَابِهَيْنِ عَلَى الْآخَرِ كَقَوْلِهِ وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: ٤٠] وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ هَذَا تَمَامُ/ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ عَلَى كَوْنِهِ خَالِقًا لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ، فَقَالُوا لَا شَكَّ أَنَّ أَفْعَالَ العباد من جملة ما في السموات وَالْأَرْضِ، فَوَجَبَ كَوْنُهَا لَهُ بِقَوْلِهِ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ قَوْلُنَا: إِنَّهَا لَهُ لَوْ كَانَتْ مَخْلُوقَةً لَهُ فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ خَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ.
أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ لِلَّهِ إِضَافَةُ مِلْكٍ لَا إِضَافَةُ فِعْلٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: هَذَا الْبِنَاءُ لِفُلَانٍ فَيُرِيدُونَ أَنَّهُ مَمْلُوكُهُ لَا أَنَّهُ مَفْعُولُهُ، وَأَيْضًا الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ تَعْظِيمُ اللَّهِ لِنَفْسِهِ وَمَدْحُهُ لِإِلَهِيَّةِ نَفْسِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَمَدَّحَ بِأَنْ يَنْسِبَ إِلَى نَفْسِهِ الْفَوَاحِشَ وَالْقَبَائِحَ، وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا كان مظروفاً في السموات وَالْأَرْضِ وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ لَا مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ أَعْرَاضٌ.
أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ بِأَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ إِضَافَةُ الْفِعْلِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْقَبِيحِ وَالْحَسَنِ لَا يُرَجِّحُ الْحَسَنَ عَلَى الْقَبِيحِ إِلَّا إِذَا حَصَلَ فِي قَلْبِهِ مَا يَدْعُوهُ إِلَى فِعْلِ الْحَسَنِ، وَتِلْكَ الدَّاعِيَةُ حَاصِلَةٌ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعَالَى دَفْعًا لِلتَّسَلْسُلِ، وَإِذَا كَانَ الْمُؤَثِّرُ فِي حُصُولِ فِعْلِ الْعَبْدِ هُوَ مَجْمُوعُ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِيَةِ، وَثَبَتَ أَنَّ مَجْمُوعَ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِيَةِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى ثَبَتَ أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مُسْتَنِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى خَلْقًا وَتَكْوِينًا بِوَاسِطَةِ فِعْلِ السَّبَبِ، فَهَذَا تَمَامُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute