ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَقَوْلُهُ تِلْكَ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا هِيَ دَلَائِلُ اللَّهِ، وَإِنَّمَا جَازَ إِقَامَةُ تِلْكَ مَقَامَ (هَذِهِ) لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ قَدِ انْقَضَتْ بَعْدَ الذِّكْرِ، فَصَارَ كَأَنَّهَا بَعُدَتْ فَقِيلَ فِيهَا تِلْكَ وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَهُ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِ كِتَابًا مُشْتَمِلًا عَلَى كُلِّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الدِّينِ، فَلَمَّا أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَاتِ قَالَ: تِلْكَ الْآيَاتُ الْمَوْعُودَةُ هِيَ الَّتِي نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ في تفسير قوله ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة: ٢] وَقَوْلُهُ بِالْحَقِّ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَيْ مُلْتَبِسَةٌ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ مِنْ إِجْزَاءِ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ بِمَا يَسْتَوْجِبَانِهِ الثَّانِي: بِالْحَقِّ، أَيْ بِالْمَعْنَى الْحَقِّ، لِأَنَّ مَعْنَى التَّلْوِ حَقٌّ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا حَسُنَ ذِكْرُ الظُّلْمِ هَاهُنَا لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْعُقُوبَةِ الشَّدِيدَةِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَعْتَذِرُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ إِنَّهُمْ مَا وَقَعُوا فِيهِ إِلَّا بِسَبَبِ أَفْعَالِهِمُ الْمُنْكَرَةِ، فَإِنَّ مَصَالِحَ الْعَالَمِ لَا تَسْتَقِيمُ إِلَّا بِتَهْدِيدِ الْمُذْنِبِينَ، وَإِذَا حَصَلَ هَذَا التَّهْدِيدُ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّحْقِيقِ دَفْعًا لِلْكَذِبِ، فَصَارَ هَذَا الِاعْتِذَارُ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ، عَلَى أَنَّ جَانِبَ الرَّحْمَةِ غَالِبٌ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ (عَمَّ) بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ وَعِيدَ الْكُفَّارِ إِنَّهُمْ كانُوا لَا يَرْجُونَ حِساباً وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً [النَّبَأِ: ٢٧، ٢٨] أَيْ هَذَا الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ إِنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُرِيدُ شَيْئًا مِنَ الْقَبَائِحِ لَا مِنْ أَفْعَالِهِ وَلَا مِنْ أَفْعَالِ عِبَادِهِ، وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَبَيَانُهُ: وَهُوَ أَنَّ الظُّلْمَ إِمَّا أَنْ يُفْرَضَ صُدُورُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ مِنَ الْعَبْدِ، وَبِتَقْدِيرِ صُدُورِهِ مِنَ الْعَبْدِ، فَإِمَّا أَنْ يَظْلِمَ نَفْسَهُ وَذَلِكَ بِسَبَبِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْمَعَاصِي أَوْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ، فَأَقْسَامُ الظُّلْمِ هِيَ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُرِيدَ شَيْئًا مِمَّا يَكُونُ ظُلْمًا، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ صَادِرًا عَنْهُ أَوْ صَادِرًا عَنْ غَيْرِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ فَاعِلًا لِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ فَاعِلًا لِلظُّلْمِ أَصْلًا وَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ فَاعِلًا لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ، لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَعْمَالِهِمْ ظُلْمُهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَظُلْمُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى غَيْرَ فَاعِلٍ لِلظُّلْمِ أَلْبَتَّةَ لِأَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُرِيدٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا، / وَلَوْ كَانَ فَاعِلًا لِشَيْءٍ مِنْ أَقْسَامِ الظُّلْمِ لَكَانَ مُرِيدًا لَهَا، وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ، قَالُوا: فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ فَاعِلٍ لِلظُّلْمِ، وَغَيْرُ فَاعِلٍ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ، وَغَيْرُ مُرِيدٍ لِلْقَبَائِحِ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، ثُمَّ قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى تَمَدَّحَ بِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ ذَلِكَ، وَالتَّمَدُّحُ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ صَحَّ مِنْهُ فِعْلُ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَصَحَّ مِنْهُ كَوْنُهُ مُرِيدًا لَهُ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى الظُّلْمِ وَعِنْدَ هَذَا تَبَجَّحُوا وَقَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ الْوَاحِدَةُ وَافِيَةٌ بِتَقْرِيرِ جَمِيعِ أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي مَسَائِلِ الْعَدْلِ، ثُمَّ قَالُوا: وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ الظُّلْمَ وَلَا يَفْعَلُ الظُّلْمَ قَالَ بَعْدَهُ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ عَقِيبَ مَا تَقَدَّمَ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ الظُّلْمَ وَالْقَبَائِحَ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ فَاعِلَ الْقَبِيحِ إِنَّمَا يَفْعَلُ الْقَبِيحَ إِمَّا لِلْجَهْلِ، أَوِ الْعَجْزِ، أَوِ الْحَاجَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لكل ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَهَذِهِ الْمَالِكِيَّةُ تُنَافِي الْجَهْلَ وَالْعَجْزَ وَالْحَاجَةَ، وَإِذَا امْتَنَعَ ثُبُوتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى امْتَنَعَ كَوْنُهُ فَاعِلًا لِلْقَبِيحِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute