للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يَسْتَفِيدُ مِنْهُ نَفْعًا بَلْ يَسْتَفِيدُ مِنْهُ أَعْظَمَ الْمَضَارِّ يُقَالُ: إِنَّهُ أَحْبَطَ عَمَلَهُ أَيْ أَتَى بِعَمَلٍ بَاطِلٍ لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ بَلْ فِيهِ مَضَرَّةٌ، ثُمَّ قَالَ الْمُنْكِرُونَ لِلْإِحْبَاطِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْإِحْبَاطِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي لَفْظِ الْإِحْبَاطِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فِيهِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَجَازًا وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، لِأَنَّا ذَكَرْنَا الدَّلَائِلَ الْقَاطِعَةَ فِي مَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُوَافَاةَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ، عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ أَثَرَ الْفِعْلِ الْحَادِثِ يُزِيلُ أَثَرَ الْفِعْلِ السَّابِقِ مُحَالٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمَّا حُبُوطُ الْأَعْمَالِ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ أَنَّهُ يُقْتَلُ عِنْدَ الظَّفَرِ بِهِ وَيُقَاتَلُ إِلَى أَنْ يُظْفَرَ بِهِ وَلَا يَسْتَحِقُّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مُوَالَاةً وَلَا نَصْرًا وَلَا ثَنَاءً حَسَنًا، وَتَبِينُ زَوْجَتُهُ مِنْهُ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا أَنَّ مَا يُرِيدُونَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِينَ وَمُكَايَدَتِهِمْ بِالِانْتِقَالِ عَنْ دِينِهِمْ يَبْطُلُ كُلُّهُ، فَلَا يَحْصُلُونَ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ لِإِعْزَازِ اللَّهِ الْإِسْلَامَ بِأَنْصَارِهِ فَتَكُونُ الْأَعْمَالُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ مَا يَعْمَلُونَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ، وَأَمَّا حُبُوطُ أَعْمَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ فَعِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْإِحْبَاطِ مَعْنَاهُ أَنَّ هذه الردة تبطل استحقاقهم للثواب الذي استقوه بِأَعْمَالِهِمُ السَّالِفَةِ، وَعِنْدَ الْمُنْكِرِينَ لِذَلِكَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ لَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْ تِلْكَ الرِّدَّةِ ثَوَابًا وَنَفْعًا فِي الْآخِرَةِ بَلْ يَسْتَفِيدُونَ مِنْهَا أَعْظَمَ الْمَضَارِّ، ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ تِلْكَ الْمَضَرَّةِ فَقَالَ تَعَالَى: وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.

[[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٨]]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)

فِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَبْ أَنَّهُ لَا عِقَابَ فِيمَا فَعَلْنَا، فَهَلْ نَطْمَعُ مِنْهُ أَجْرًا وَثَوَابًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ مُؤْمِنًا، وَكَانَ مُهَاجِرًا، وَكَانَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْمُقَاتَلَةِ مُجَاهِدًا وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ الْجِهَادَ مِنْ قَبْلُ بِقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٢١٦] وَبَيَّنَ أَنَّ تَرْكَهُ سَبَبٌ لِلْوَعِيدِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَنْ يَقُومُ بِهِ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ وَعِيدٌ إِلَّا وَيَعْقُبُهُ وَعْدٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هاجَرُوا أَيْ فَارَقُوا أَوْطَانَهُمْ وَعَشَائِرَهُمْ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْهَجْرِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْوَصْلِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْكَلَامِ الْقَبِيحِ: هُجْرٌ، لِأَنَّهُ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُهْجَرَ، وَالْهَاجِرَةُ وَقْتٌ يُهْجَرُ فِيهِ الْعَمَلُ، وَالْمُهَاجَرَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ الْأَحْبَابَ وَالْأَقَارِبَ هَجَرُوهُ بِسَبَبِ هَذَا الدِّينِ، وَهُوَ أَيْضًا هَجَرَهُمْ بِهَذَا السَّبَبِ، فَكَانَ ذَلِكَ مُهَاجَرَةً، وَأَمَّا الْمُجَاهَدَةُ فَأَصْلُهَا مِنَ الْجَهْدِ الَّذِي هُوَ الْمَشَقَّةُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْمُجَاهَدَةِ أَنْ يَضُمَّ جُهْدَهُ إِلَى جُهْدٍ آخَرَ فِي نُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ، كَمَا أَنَّ الْمُسَاعَدَةَ عِبَارَةٌ عَنْ ضَمِّ الرَّجُلِ سَاعِدَهُ إِلَى سَاعِدٍ آخَرَ لِيَحْصُلَ التَّأْيِيدُ وَالْقُوَّةُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المراد من المجاهدة بذل الجهة في قتال العدو، وعند فعل العدو، ومثل ذَلِكَ فَتَصِيرُ مُفَاعَلَةً.