لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ أَتَرَى عَيْنَايَ مَا تَرَى عَيْنَاكَ؟ فَقَالَ نَعَمْ، فَبَكَى حَتَّى مَاتَ،
وَقَالَ آخرون:
بل هو خطاب لكل أحد.
[[سورة الإنسان (٧٦) : آية ٢١]]
عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ عَالِيهِمْ بِإِسْكَانِ الْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ أَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى: فَالْوَجْهُ فِيهَا أَنْ يَكُونَ عَالِيهِمْ مبتدأ، وثياب سُنْدُسٍ خَبَرَهُ، وَالْمَعْنَى مَا يَعْلُوهُمْ مِنْ لِبَاسِهِمْ ثياب سندس، فإن قيل: عاليهم مفرد، وثياب سُنْدُسٍ جَمَاعَةٌ، وَالْمُبْتَدَأُ إِذَا كَانَ مُفْرَدًا لَا يَكُونُ خَبَرُهُ جَمْعًا، قُلْنَا: الْمُبْتَدَأُ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
عالِيَهُمْ وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا فِي اللَّفْظِ، فَهُوَ جَمْعٌ فِي الْمَعْنَى، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ، ... فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ [المؤمنون: ٦٧] كَأَنَّهُ أُفْرِدَ مِنْ حَيْثُ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ أَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ فَتْحُ الْيَاءِ، فَذَكَرُوا فِي هَذَا النَّصْبِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَالِي بِمَعْنَى فَوْقُ أُجْرِيَ مَجْرَاهُ فِي هَذَا الْإِعْرَابِ، كَمَا كَانَ قَوْلُهُ: وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ [الْأَنْفَالِ: ٤٢] كَذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَالثَّانِي: أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، ثُمَّ هَذَا أَيْضًا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: التَّقْدِيرُ: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا حَالَ مَا يَكُونُ عَالِيهِمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ وَثَانِيهَا: التَّقْدِيرُ: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا حَالَ مَا يَكُونُ عَالِيهِمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَيَطُوفُ عَلَى الْأَبْرَارِ وِلْدَانٌ، حَالَ مَا يَكُونُ الْأَبْرَارُ عَالِيهِمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ وَرَابِعُهَا: حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا، حَالَ مَا يَكُونُ/ عَالِيهِمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ، فَعَلَى الاحتمالات الثلاثة الأول: تكون الثياب الْأَبْرَارِ، وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الرَّابِعِ تَكُونُ الثِّيَابُ ثِيَابَ الْوِلْدَانِ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي سَبَبِ هَذَا النَّصْبِ، أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: رَأَيْتَ أَهْلَ نَعِيمٍ وَمُلْكٍ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ: خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ، كِلَاهُمَا بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحَمْزَةُ: كِلَاهُمَا بِالْخَفْضِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: خُضْرٍ بالخفض، وإستبرق بِالرَّفْعِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عامر: خضر بالرفع، وإستبرق بِالْخَفْضِ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ خُضْرًا يَجُوزُ فِيهِ الْخَفْضُ وَالرَّفْعُ، أَمَّا الرَّفْعُ فَإِذَا جَعَلْتَهَا صِفَةً لِثِيَابٍ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ لِأَنَّهَا صِفَةُ مَجْمُوعَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَجْمُوعَةٍ، وَأَمَّا الْخَفْضُ فَإِذَا جَعَلْتَهَا صِفَةَ سُنْدُسٍ، لِأَنَّ سُنْدُسٍ أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ، فَكَانَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَأَجَازَ الْأَخْفَشُ وَصْفَ اللَّفْظِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ بِالْجَمْعِ، كَمَا يُقَالُ: أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الصُّفْرُ وَالدِّرْهَمُ الْبِيضُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ قَبِيحٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى قُبْحِهِ أَنَّ الْعَرَبَ تَجِيءُ بِالْجَمْعِ الَّذِي هُوَ فِي لَفْظِ الْوَاحِدِ فَيُجْرُونَهُ مُجْرَى الْوَاحِدِ وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: حَصًى أَبْيَضُ وَفِي التَّنْزِيلِ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ [يس: ٨٠] وأَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [الْقَمَرِ: ٢٠] إِذْ كَانُوا قَدْ أَفْرَدُوا صِفَاتِ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْجَمْعِ، فَالْوَاحِدُ الَّذِي فِي مَعْنَى الْجَمْعِ أَوْلَى أَنْ تُفْرَدَ صِفَتُهُ، وَأَمَّا إِسْتَبْرَقٌ فَيَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعُ وَالْخَفْضُ أَيْضًا مَعًا، أَمَّا الرَّفْعُ فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْعَطْفُ عَلَى الثِّيَابِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: ثِيَابُ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٌ وَأَمَّا الْخَفْضُ فَإِذَا أُرِيدَ إِضَافَةُ الثِّيَابِ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ قِيلَ:
ثِيَابُ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ، وَالْمَعْنَى ثِيَابُهُمَا فَأَضَافَ الثِّيَابَ إِلَى الْجِنْسَيْنِ كَمَا يُقَالُ: ثِيَابُ خَزٍّ وَكَتَّانٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ [الكهف: ٣١] وَاعْلَمْ أَنَّ حَقَائِقَ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: السُّنْدُسُ مَا رَقَّ مِنَ الدِّيبَاجِ، وَالْإِسْتَبْرَقُ مَا غَلُظَ مِنْهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي اسْمِ الْحَرِيرِ قَالَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute