وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ أَيْ عَلَى الْقِيَامِ بِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى وَاحْتِمَالِ الْأَذَى فِي نُصْرَةِ دِينِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا قَالَ مُقَاتِلٌ: الرَّحْمَةُ النُّبُوَّةُ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ يتناول جميع أعمال البر والخير.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٧ الى ٨٨]
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨)
الْقِصَّةُ الثَّامِنَةُ، قِصَّةُ يُونُسَ عليه السلام
اعلم أن هنها مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ ذَا النُّونِ هُوَ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّ النُّونَ هُوَ السَّمَكَةُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْمَ إِذَا دَارَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لَقَبًا مَحْضًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا، فَحَمْلُهُ عَلَى الْمُفِيدِ أَوْلَى، خُصُوصًا إِذَا عُلِمَتِ الْفَائِدَةُ الَّتِي يَصْلُحُ لَهَا ذَلِكَ الْوَصْفُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ وُقُوعَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَطْنِ السَّمَكَةِ كَانَ قَبْلَ اشْتِغَالِهِ بِأَدَاءِ رِسَالَةِ اللَّه تَعَالَى أَوْ بَعْدَهُ. أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ:
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: كَانَ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَوْمُهُ يَسْكُنُونَ فِلَسْطِينَ، فَغَزَاهُمْ مَلِكٌ وَسَبَى مِنْهُمْ تِسْعَةَ أَسْبَاطٍ وَنِصْفًا، وَبَقِيَ سِبْطَانِ وَنِصْفٌ. فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَى شُعَيْبٍ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنِ اذْهَبْ إِلَى حِزْقِيلَ الْمَلِكِ وَقُلْ لَهُ حَتَّى يُوَجِّهَ نَبِيًّا قَوِيًّا أَمِينًا فَإِنِّي أُلْقِي فِي قُلُوبِ أُولَئِكَ أَنْ يُرْسِلُوا مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: فَمَنْ تَرَى وَكَانَ فِي مَمْلَكَتِهِ خَمْسَةٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ يُونُسُ بْنُ مَتَّى: فَإِنَّهُ قَوِيٌّ أَمِينٌ فَدَعَا الْمَلِكُ بِيُونُسَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَخْرُجَ فَقَالَ يُونُسُ: هَلْ أَمَرَكَ اللَّه بِإِخْرَاجِي؟ قَالَ: لَا، قَالَ فَهَلْ سَمَّانِي لَكَ؟
قَالَ: لَا قَالَ فههنا أَنْبِيَاءٌ غَيْرِي، فَأَلَحُّوا عَلَيْهِ فَخَرَجَ مُغَاضِبًا لِلْمَلِكِ وَلِقَوْمِهِ فَأَتَى بَحْرَ الرُّومِ فَوَجَدَ قَوْمًا هَيَّئُوا سَفِينَةً فَرَكِبَ مَعَهُمْ فَلَمَّا تَلَجَّجَتِ السَّفِينَةُ تَكَفَّأَتْ بِهِمْ وَكَادُوا أَنْ يَغْرَقُوا، فَقَالَ الْمَلَّاحُونَ: هَاهُنَا رَجُلٌ عَاصٍ أَوْ عَبْدٌ آبِقٌ لِأَنَّ السَّفِينَةَ لَا تَفْعَلُ هَذَا مِنْ غَيْرِ رِيحٍ إِلَّا وَفِيهَا رَجُلٌ عَاصٍ، وَمِنْ رَسْمِنَا أَنَّا إِذَا ابْتُلِينَا بِمِثْلِ هَذَا الْبَلَاءِ أَنْ نَقْتَرِعَ فَمَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ أَلْقَيْنَاهُ فِي الْبَحْرِ، وَلَأَنْ يَغْرَقَ [وَ] احِدٌ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَغْرَقَ السَّفِينَةُ، فَاقْتَرَعُوا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ فِيهَا كُلِّهَا عَلَى يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: أَنَا/ الرَّجُلُ الْعَاصِي وَالْعَبْدُ الْآبِقُ، وَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ فَجَاءَ حُوتٌ فَابْتَلَعَهُ، فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَى الْحُوتِ لَا تُؤْذِ مِنْهُ شَعْرَةً. فَإِنِّي جَعَلْتُ بَطْنَكَ سِجْنًا لَهُ وَلَمْ أَجْعَلْهُ طَعَامًا لَكَ، ثُمَّ لَمَّا نَجَّاهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ نَبَذَهُ بِالْعَرَاءِ كَالْفَرْخِ الْمَنْتُوفِ لَيْسَ عَلَيْهِ شَعَرٌ وَلَا جِلْدٌ، فَأَنْبَتَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ يَسْتَظِلُّ بِهَا وَيَأْكُلُ مِنْ ثَمَرِهَا حَتَّى اشْتَدَّ، فَلَمَّا يَبِسَتِ الشَّجَرَةُ حَزِنَ عَلَيْهَا يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقِيلَ لَهُ: أَتَحْزَنُ عَلَى شَجَرَةٍ وَلَمْ تَحْزَنْ عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، حَيْثُ لَمْ تَذْهَبْ إِلَيْهِمْ وَلَمْ تَطْلُبْ رَاحَتَهُمْ. ثُمَّ أَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَيْهِمْ فَتَوَجَّهُ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَحْوَهُمْ حَتَّى دَخَلَ أَرْضَهُمْ وَهُمْ مِنْهُ غَيْرُ بَعِيدٍ فَأَتَاهُمْ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ لِمَلِكِهِمْ إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ لِتُرْسِلَ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا: مَا نَعْرِفُ مَا تَقُولُ، وَلَوْ عَلِمْنَا أَنَّكَ صَادِقٌ لَفَعَلْنَا، وَلَقَدْ أَتَيْنَاكُمْ فِي دِيَارِكُمْ وَسَبَيْنَاكُمْ فَلَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ لَمَنَعَنَا اللَّه عَنْكُمْ، فَطَافَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ فَأَبَوْا عَلَيْهِ فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ: قُلْ لَهُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا جَاءَكُمُ الْعَذَابُ فَأَبْلَغَهُمْ فَأَبَوْا، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِمْ فَلَمَّا فَقَدُوهُ نَدِمُوا عَلَى فِعْلِهِمْ فَانْطَلَقُوا يَطْلُبُونَهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute