وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَنْ يُضْلِلْ يُرِيدُ وَمَنْ يُضْلِلْهُ اللَّه وَيَخْذُلْهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أَيْ خَسِرُوا الدنيا والآخرة.
[[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٩]]
وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩)
[في قوله تَعَالَى وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ] هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَإِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ أَنَّهُ خَلَقَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لِجَهَنَّمَ، وَلَا مَزِيدَ عَلَى بَيَانِ اللَّه. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ النَّارِ انْقَلَبَ عِلْمُ اللَّه جَهْلًا وَخَبَرُهُ الصِّدْقُ كَذِبًا وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ وَالْمُفْضِي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ، فَعَدَمُ دُخُولِهِمْ فِي النَّارِ مُحَالٌ، وَمَنْ عَلِمَ كَوْنَ الشَّيْءِ مُحَالًا امْتَنَعَ أَنْ يُرِيدَهُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى يَمْتَنِعُ أَنْ يُرِيدَ أَنْ لَا يُدْخِلَهُمْ فِي النَّارِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يُدْخِلَهُمْ فِي النَّارِ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ لفظ الآية. الثالث: أن القار عَلَى الْكُفْرِ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِيمَانِ، فَالَّذِي خَلَقَ فِيهِ الْقُدْرَةَ عَلَى الْكُفْرِ، فَقَدْ أَرَادَ أَنْ يُدْخِلَهُ فِي النَّارِ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكُفْرِ وَعَلَى الْإِيمَانِ مَعًا امْتَنَعَ رُجْحَانُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لَا لِمُرَجِّحٍ، وَذَلِكَ الْمُرَجِّحُ إِنْ حَصَلَ مِنْ قِبَلِهِ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ حَصَلَ مَنْ قِبَلِهِ تَعَالَى، فَلَمَّا كان هو الخالق للداعية الموجبة للظفر، فَقَدْ خَلَقَهُ لِلنَّارِ قَطْعًا. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ خَلَقَهُ لِلْجَنَّةِ وَأَعَانَهُ عَلَى اكْتِسَابِ تَحْصِيلِ مَا يُوجِبُ دُخُولَ الْجَنَّةِ، ثُمَّ قَدَّرْنَا أَنَّ الْعَبْدَ سَعَى فِي تَحْصِيلِ الْكُفْرِ الْمُوجِبِ لِلدُّخُولِ فِي النَّارِ، فَحِينَئِذٍ حَصَلَ مُرَادُ الْعَبْدِ، وَلَمْ يَحْصُلْ مُرَادُ اللَّه تَعَالَى، فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْعَبْدِ أَقْدَرَ وَأَقْوَى مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يُرِيدُ الْكُفْرَ وَالْجَهْلَ الْمُوجِبَ لِاسْتِحْقَاقِ النَّارِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْإِيمَانَ وَالْمَعْرِفَةَ الْمُوجِبَةَ لِاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَالدُّخُولِ فِي الْجَنَّةِ، فَلَمَّا حَصَلَ الْكُفْرُ وَالْجَهْلُ عَلَى خِلَافِ قَصْدِ الْعَبْدِ وَضِدِّ جَهْدِهِ وَاجْتِهَادِهِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ حُصُولُهُ مِنْ قِبَلِ الْعَبْدِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُصُولُهُ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى.
فَإِنْ قَالُوا: الْعَبْدُ إِنَّمَا سَعَى فِي تَحْصِيلِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ الْبَاطِلِ، لِأَنَّهُ اشْتَبَهَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ وَظَنَّ أَنَّهُ هُوَ الِاعْتِقَادُ الْحَقُّ الصَّحِيحُ.
فَنَقُولُ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: إِنَّمَا وَقَعَ فِي هَذَا الْجَهْلِ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْجَهْلِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنْ كَانَ إِقْدَامُهُ عَلَى ذَلِكَ الْجَهْلِ السَّابِقِ لِجَهْلٍ آخَرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنِ انْتَهَى إِلَى جَهْلٍ حَصَلَ ابْتِدَاءً لَا لِسَابِقَةِ جَهْلٍ آخَرَ، فَقَدْ تَوَجَّهَ الْإِلْزَامُ وَتَأَكَّدَ الدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْبَرَاهِينَ الْعَقْلِيَّةَ نَاطِقَةٌ بِصِحَّةِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ صَرِيحُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرْتُمْ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مِنَ الْكُلِّ الطَّاعَةَ. وَالْعِبَادَةَ وَالْخَيْرَ وَالصَّلَاحَ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الْفَتْحِ: ٨، ٩] وَقَالَ: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النِّسَاءِ: ٦٤] وَقَالَ: وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا [الْفُرْقَانِ: ٥٠] وَقَالَ: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الْحَدِيدِ: ٩] وَقَالَ: وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الْحَدِيدِ: ٢٥] وَقَالَ: يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [إِبْرَاهِيمَ: ١٠] وَقَالَ: وَما خَلَقْتُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute