تَعَالَى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [الْمَائِدَةِ: ٤٥] حُكْمُهُ بَاقٍ فِي شَرْعِنَا.
وَلَمَّا شَرَحَ اللَّه تَعَالَى فَضَائِحَ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ قَالَ: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً.
وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْفِتْنَةِ مُحْتَمِلٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا اللَّفْظُ مَذْكُورًا عَقِيبَ أَنْوَاعِ كُفْرِهِمُ الَّتِي شَرَحَهَا اللَّه تَعَالَى وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْفِتْنَةِ تِلْكَ الْكُفْرِيَّاتِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْمُرَادُ: وَمَنْ يُرِدِ اللَّه كُفْرَهُ وَضَلَالَتَهُ فَلَنْ يَقْدِرَ أَحَدٌ عَلَى دَفْعِ ذَلِكَ عَنْهُ.
ثُمَّ أَكَّدَ تَعَالَى هَذَا فَقَالَ: أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى غَيْرُ مُرِيدٍ إِسْلَامَ الْكَافِرِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُطَهِّرْ قَلْبَهُ مِنَ/ الشَّكِّ وَالشِّرْكِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَآمَنَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَشَدِّ الْآيَاتِ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ. أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ الْفِتْنَةِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ الْفِتْنَةَ هِيَ الْعَذَابُ، قَالَ تَعَالَى: عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات: ١٣] أي يعذبون، فالمراد هاهنا: أَنَّهُ يُرِيدُ عَذَابَهُ لِكُفْرِهِ وَنِفَاقِهِ، وَثَانِيهَا: الْفِتْنَةُ الْفَضِيحَةُ، يَعْنِي وَمَنْ يُرِدِ اللَّه فَضِيحَتَهُ. الثَّالِثُ:
فِتْنَتَهُ: إِضْلَالَهُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْإِضْلَالِ الْحُكْمُ بِضَلَالِهِ وَتَسْمِيَتِهِ ضَالًّا، وَرَابِعُهَا: الْفِتْنَةُ الِاخْتِبَارُ، يَعْنِي مَنْ يُرِدِ اللَّه اخْتِبَارَهُ فِيمَا يَبْتَلِيهِ مِنَ التَّكَالِيفِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَتْرُكُهَا وَلَا يَقُومُ بِأَدَائِهَا فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّه ثَوَابًا وَلَا نَفْعًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: لَمْ يُرِدِ اللَّه أَنْ يَمُدَّ قُلُوبَهُمْ بِالْأَلْطَافِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تِلْكَ الْأَلْطَافِ لِأَنَّهَا لَا تَنْجَعُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَثَانِيهَا: لَمْ يُرِدِ اللَّه أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ عَنِ الْحَرَجِ وَالْغَمِّ وَالْوَحْشَةِ الدَّالَّةِ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذَا اسْتِعَارَةٌ عَنْ سُقُوطِ وَقْعِهِ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَفَتٍ إِلَيْهِ بِسَبَبِ قُبْحِ أَفْعَالِهِ وَسُوءِ أَعْمَالِهِ، وَالْكَلَامُ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَخِزْيُ الْمُنَافِقِينَ هَتْكُ سِتْرِهِمْ بِاطِّلَاعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كَذِبِهِمْ وَخَوْفِهِمْ مِنَ الْقَتْلِ، وَخِزْيُ الْيَهُودِ فَضِيحَتُهُمْ بِظُهُورِ كَذِبِهِمْ فِي كِتْمَانِ نَصِّ اللَّه تَعَالَى فِي إِيجَابِ الرَّجْمِ وَأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ.
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ وَهُوَ الخلود في النار.
[[سورة المائدة (٥) : آية ٤٢]]
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وأبو عمرو الكسائي السُّحُتُ بِضَمِّ السِّينِ وَالْحَاءِ حَيْثُ كَانَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِرَفْعِ السِّينِ وَسُكُونِ الْحَاءِ عَلَى لَفْظِ الْمَصْدَرِ مِنْ: سَحَتَهُ، وَنَقَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» السَّحَتِ بِفَتْحَتَيْنِ، وَالسِّحْتِ بِكَسْرِ السِّينِ وَسُكُونِ الْحَاءِ، وَكُلُّهَا لُغَاتٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذكروا في لفظ السحت وجوها: الأول: قَالَ الزَّجَّاجُ: أَصْلُهُ مِنْ سَحَتَهُ إِذَا اسْتَأْصَلَهُ، قال تعالى: فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ [طه: ٦١] وسميت الرشاء الَّتِي كَانُوا يَأْخُذُونَهَا بِالسُّحْتِ إِمَّا لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى يُسْحِتُهُمْ بِعَذَابٍ، أَيْ يَسْتَأْصِلُهُمْ، أَوْ لِأَنَّهُ مَسْحُوتُ الْبَرَكَةِ، قَالَ تَعَالَى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا [البقرة: ٢٧٦]