للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَيَتَعَصَّفُ «١» غَيْظًا وَغَضِبَ فَطَارَتْ مِنْهُ (شُعْلَةٌ فِي الْأَرْضِ وَشُعْلَةٌ) «٢» فِي السَّمَاءِ إِذَا وَصَفُوهُ بِالْإِفْرَاطِ فِيهِ. وَأَقُولُ لَعَلَّ السَّبَبَ فِي هَذَا الْمَجَازِ أَنَّ الْغَضَبَ حَالَةٌ تَحْصُلُ عِنْدَ غَلَيَانِ دَمِ الْقَلْبِ وَالدَّمُ عِنْدَ الْغَلَيَانِ يَصِيرُ أَعْظَمَ حَجْمًا وَمِقْدَارًا فَتَتَمَدَّدُ تِلْكَ الْأَوْعِيَةُ عِنْدَ ازْدِيَادِ مَقَادِيرِ الرُّطُوبَاتِ فِي الْبَدَنِ، فَكُلَّمَا كَانَ الْغَضَبُ أَشَدَّ كَانَ الْغَلَيَانُ أَشَدَّ، فَكَانَ الِازْدِيَادُ أَكْثَرَ، وَكَانَ تَمَدُّدُ الْأَوْعِيَةِ وَانْشِقَاقُهَا وَتَمَيُّزُهَا أَكْثَرَ، فَجُعِلَ ذِكْرُ هَذِهِ الْمُلَازَمَةِ كِنَايَةً عَنْ شِدَّةِ الْغَضَبِ، فَإِنْ قِيلَ: النَّارُ لَيْسَتْ مِنَ الْأَحْيَاءِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ وَصْفُهَا بِالْغَيْظِ قُلْنَا الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْبِنْيَةَ عِنْدَنَا لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْحَيَاةِ فَلَعَلَّ اللَّهَ يَخْلُقُ فِيهَا وَهِيَ نَارٌ حَيَاةً وَثَانِيهَا: أَنَّهُ شَبَّهَ صَوْتَ لَهَبِهَا وَسُرْعَةِ تَبَادُرِهَا بِصَوْتِ الْغَضْبَانِ وَحَرَكَتِهِ وَثَالِثُهَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ غيظ الزبانية.

الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ.

الْفَوْجُ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ وَالْأَفْوَاجُ الْجَمَاعَاتُ فِي تَعَرُّفِهِ، ومنه قوله: فَتَأْتُونَ أَفْواجاً [النبأ: ١٨] وخَزَنَتُها مَالِكٌ وَأَعْوَانُهُ مِنَ الزَّبَانِيَةِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ وَهُوَ سُؤَالُ تَوْبِيخٍ، قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهَذَا التَّوْبِيخُ زِيَادَةٌ لَهُمْ فِي الْعَذَابِ، وَفِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّتِ الْمُرْجِئَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ إِلَّا الْكُفَّارُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ كُلِّ مَنْ أُلْقِيَ فِي النَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا: كَذَّبْنَا النَّذِيرَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ لَمْ يُكَذِّبِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ، وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِأَنَّ الْفَاسِقَ الْمُصِرَّ لَا يَدْخُلُ النَّارَ، وَأَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ بِأَنَّ النَّذِيرَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا فِي الْعُقُولِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمُحَذِّرَةِ الْمُخَوِّفَةِ، وَلَا أَحَدَ يَدْخُلُ النَّارَ إِلَّا وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ غَيْرُ مُتَمَسِّكٍ بِمُوجَبِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَشُكْرَهُ لَا يَجِبَانِ إِلَّا بَعْدَ وُرُودِ السَّمْعِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا: هَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا عَذَّبَهُمْ لِأَنَّهُ أَتَاهُمُ النَّذِيرُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْتِهِمُ النَّذِيرُ لَمَا عَذَّبَهُمْ.

ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ جَوَابَهُمْ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ من وجهين:

[[سورة الملك (٦٧) : آية ٩]]

قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩)

الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ بِعَدْلِ اللَّهِ، وَإِقْرَارٌ بِأَنَّ اللَّهَ أَزَاحَ عِلَلَهُمْ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ، وَلَكِنَّهُمْ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَقَالُوا: مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ قَوْلِ الْكُفَّارِ وَخِطَابِهِمْ لِلْمُنْذِرِينَ الْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الْخَزَنَةِ لِلْكُفَّارِ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا قَالُوا ذَلِكَ الْكَلَامَ قَالَتِ الْخَزَنَةُ لَهُمْ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الضَّلَالِ الْكَبِيرِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ ضَلَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَيُحْتَمَلُ


(١) في الكشاف للزمخشري (ويتقصف) ٤/ ١٣٦ ط. دار الفكر.
(٢) في الكشاف للزمخشري (شقة في الأرض وشقة) ٤/ ١٣٦ ط. دار الفكر.

<<  <  ج: ص:  >  >>