للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[[سورة الطور (٥٢) : آية ١٧]]

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧)

عَلَى مَا هُوَ عَادَةُ الْقُرْآنِ مِنْ بَيَانِ حَالِ الْمُؤْمِنِ/ بَعْدَ بَيَانِ حَالِ الْكَافِرِ، وَذِكْرُ الثَّوَابِ عَقِيبَ ذِكْرِ الْعِقَابِ لِيَتِمَّ أَمْرُ التَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَ الْمُتَّقِينَ فِي مَوَاضِعَ، وَالْجَنَّةُ وَإِنْ كَانَتْ مَوْضِعَ السُّرُورِ، لَكِنَّ النَّاطُورَ قَدْ يَكُونُ فِي الْبُسْتَانِ الَّذِي هُوَ غَايَةُ الطِّيبَةِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَنَعِّمٍ، فَقَوْلُهُ وَنَعِيمٍ يُفِيدُ أَنَّهُمْ فِيهَا يَتَنَعَّمُونَ، كَمَا يَكُونُ الْمُتَفَرِّجُ لَا كَمَا يَكُونُ الناطور.

[[سورة الطور (٥٢) : آية ١٨]]

فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨)

وَقَوْلُهُ فاكِهِينَ يَزِيدُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُتَنَعِّمَ قَدْ يَكُونُ آثَارُ التَّنَعُّمِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَقَلْبُهُ مَشْغُولٌ، فَلَمَّا قَالَ:

فاكِهِينَ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الطِّيبَةِ، وَقَوْلُهُ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ يُفِيدُ زِيَادَةً فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْفَكِهَ قَدْ يَكُونُ خَسِيسَ النَّفْسِ فَيَسُرُّهُ أَدْنَى شَيْءٍ، وَيَفْرَحُ بِأَقَلِّ سَبَبٍ، فَقَالَ: فاكِهِينَ لَا لِدُنُوِّ هِمَمِهِمْ بَلْ لِعُلُوِّ نِعَمِهِمْ حَيْثُ هِيَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ فَاكِهُونَ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: بِمَا آتَاهُمْ، وَالثَّانِي: بِأَنَّهُ وَقَاهُمْ وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جُمْلَةً أُخْرَى مَنْسُوقَةً عَلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى، كَأَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّهُ أَدْخَلَهُمْ جَنَّاتٍ ونعيما ووقاهم عذاب الجحيم. ثم قال تعالى:

[سورة الطور (٥٢) : الآيات ١٩ الى ٢٠]

كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠)

وَفِيهِ بَيَانُ أَسْبَابِ التَّنْعِيمِ عَلَى التَّرْتِيبِ، فَأَوَّلُ مَا يَكُونُ الْمَسْكَنُ وَهُوَ الْجَنَّاتُ ثُمَّ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، ثُمَّ الْفُرُشُ وَالْبُسُطُ ثُمَّ الْأَزْوَاجُ، فَهَذِهِ أُمُورٌ أَرْبَعَةٌ ذَكَرَهَا اللَّهُ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَذَكَرَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِهِ قَوْلُهُ جَنَّاتٍ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَسْكَنِ وَالْمَسْكَنُ لِلْجِسْمِ ضَرُورِيٌّ وَهُوَ الْمَكَانُ، فَقَالَ: فاكِهِينَ لِأَنَّ مَكَانَ التنعيم قد ينتغص بأمور وبين سَبَبَ الْفَكَاهَةِ وَعُلُوَّ الْمَرْتَبَةِ يَكُونُ مِمَّا آتَاهُمُ اللَّهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا، وَأَمَّا فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْإِذْنِ الْمُطْلَقِ فَتَرَكَ ذِكْرَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ لِتَنَوُّعِهِمَا وَكَثْرَتِهِمَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: هَنِيئاً إِشَارَةٌ إِلَى خُلُوِّهِمَا عَمَّا يَكُونُ فِيهَا مِنَ الْمَفَاسِدِ فِي الدُّنْيَا، مِنْهَا أَنَّ الْآكِلَ يَخَافُ مِنَ الْمَرَضِ فَلَا يَهْنَأُ لَهُ الطَّعَامُ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَخَافُ النَّفَادَ فَلَا يَسْخُو بِالْأَكْلِ وَالْكُلُّ مُنْتَفٍ فِي الْجَنَّةِ فَلَا مَرَضَ وَلَا انْقِطَاعَ، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ عِنْدَهُ مَا يَفْضُلُ عَنْهُ، وَلَا إِثْمَ وَلَا تَعَبَ فِي تَحْصِيلِهِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ فِي الدُّنْيَا رُبَّمَا يَتْرُكُ لَذَّةَ الْأَكْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَهْيِئَةِ الْمَأْكُولِ بِالطَّبْخِ وَالتَّحْصِيلِ مِنَ التَّعَبِ أَوِ الْمِنَّةِ أَوْ مَا فِيهِ مِنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ وَاسْتِقْذَارِ مَا فِيهِ، فَلَا يَتَهَنَّأُ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ مُنْتَفٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ/ أَيْ مَعَ أَنِّي رَبُّكُمْ وَخَالِقُكُمْ وَأَدْخَلْتُكُمْ بِفَضْلِي الْجَنَّةَ، وَإِنَّمَا مِنَّتِي عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا إِذْ هَدَيْتُكُمْ وَوَفَّقْتُكُمْ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [الْحُجُرَاتِ: ١٧] . وَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا مَنَّ عَلَيْكُمْ لِأَنَّ هَذَا إِنْجَازُ الْوَعْدِ فَإِنْ قِيلَ قَالَ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ إِنَّما تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [التَّحْرِيمِ: ٧] وَقَالَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَهَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ؟

قُلْتُ بَيْنَهُمَا بَوْنٌ عَظِيمٌ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: كَلِمَةُ (إِنَّمَا) لِلْحَصْرِ أَيْ لَا تُجْزَوْنَ إِلَّا ذَلِكَ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي حَقِّ

<<  <  ج: ص:  >  >>