للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْأَرْضَ طَالِبَةٌ لِلْبُعْدِ مِنَ الْفَلَكِ وَمَتَى كَانَ حَالُ جَمِيعِ أَجْزَائِهَا كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ مُسْتَدِيرَةً، لِأَنَّ امْتِدَادَ الظِّلِّ كُرَةٌ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَدَحَ فِي كُرِيَّةِ الْأَرْضِ بِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَرْضَ لَوْ كَانَتْ كرة لكان مركزها متطبقا عَلَى مَرْكَزِ الْعَالَمِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْمَاءُ مُحِيطًا بِهَا مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ، لِأَنَّ طَبِيعَةَ الْمَاءِ تَقْتَضِي طَلَبَ الْمَرْكَزِ فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْمَاءِ مُحِيطًا بِكُلِّ الْأَرْضِ. الثَّانِي: مَا نُشَاهِدُ فِي الْأَرْضِ مِنَ التِّلَالِ وَالْجِبَالِ الْعَظِيمَةِ وَالْأَغْوَارِ الْمُقَعَّرَةِ جِدًّا.

أَجَابُوا عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْعِنَايَةَ الْإِلَهِيَّةَ اقْتَضَتْ إِخْرَاجَ جَانِبٍ مِنَ الْأَرْضِ عَنِ الْمَاءِ بِمَنْزِلَةِ جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ لِتَكُونَ مُسْتَقَرًّا لِلْحَيَوَانَاتِ، وَأَيْضًا لَا يَبْعُدُ سَيَلَانُ الْمَاءِ مِنْ بَعْضِ جَوَانِبِ الْأَرْضِ إِلَى الْمَوَاضِعِ الْغَائِرَةِ مِنْهَا وَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ بَعْضُ جَوَانِبِ الْأَرْضِ مِنَ الْمَاءِ.

وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ هَذِهِ التَّضَارِيسَ لَا تُخْرِجُ الْأَرْضَ عَنْ كَوْنِهَا كُرَةً، قَالُوا: لَوِ اتَّخَذْنَا كُرَةً مِنْ خَشَبٍ قُطْرُهَا ذِرَاعٌ مَثَلًا، ثُمَّ أَثْبَتْنَا فِيهَا أَشْيَاءَ بِمَنْزِلَةِ جَارُوسَاتٍ أَوْ شُعَيْرَاتٍ، وَقَوَّرْنَا فِيهَا كَأَمْثَالِهَا فَإِنَّهَا لَا تُخْرِجُهَا عَنِ الْكُرَيَّةِ وَنِسْبَةُ الْجِبَالِ وَالْغَيَرَانِ إِلَى الْأَرْضِ دُونَ نِسْبَةِ تِلْكَ الثَّابِتَاتِ إِلَى الْكُرَةِ الصَّغِيرَةِ.

الْفَصْلُ الثَّانِي فِي بَيَانِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِ الْأَرْضِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ

اعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِأَحْوَالِ الْأَرْضِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ أَسْهَلُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِ السموات عَلَى ذَلِكَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَصْمَ يَدَّعِي أَنَّ اتصاف السموات بِمَقَادِيرِهَا وَأَحْيَازِهَا وَأَوْضَاعِهَا أَمْرٌ وَاجِبٌ لِذَاتِهِ، مُمْتَنِعُ التَّغَيُّرِ فَيَسْتَغْنِي عَنِ الْمُؤَثِّرِ، فَيَحْتَاجُ فِي إِبْطَالِ ذَلِكَ إِلَى إِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى تَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ الْأَرْضِيَّةِ فَإِنَّا نُشَاهِدُ تَغَيُّرَهَا فِي جَمِيعِ صِفَاتِهَا أَعْنِي حُصُولَهَا فِي أَحْيَازِهَا وَأَلْوَانِهَا وَطُعُومِهَا وَطِبَاعِهَا وَنُشَاهِدُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْجِبَالِ وَالصُّخُورِ الصُّمِّ يُمْكِنُ كَسْرُهَا وَإِزَالَتُهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا وَجَعْلُ الْعَالِي سَافِلًا وَالسَّافِلِ عَالِيًا وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ اخْتِصَاصَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَكَانِ وَالْحَيِّزِ وَالْمُمَاسَّةِ وَالْقُرْبِ مِنْ بَعْضِ الْأَجْسَامِ وَالْبُعْدِ مِنْ بَعْضِهَا مُمْكِنُ التَّغَيُّرِ وَالتَّبَدُّلِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اتِّصَافَ تِلْكَ الْأَجْرَامِ بِصِفَاتِهَا أَمْرٌ جَائِزٌ وَجَبَ افْتِقَارُهَا فِي ذَلِكَ الِاخْتِصَاصِ إِلَى مُدَبِّرٍ قَدِيمٍ عَلِيمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ قَوْلِ الظَّالِمِينَ، وَإِذَا عَرَفْتَ مَأْخَذَ الْكَلَامِ سَهُلَ عَلَيْكَ التَّفْرِيعُ.

النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ الدَّلَائِلِ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا لِلِاخْتِلَافِ تفسيرين. أحدها: أَنَّهُ افْتِعَالٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: خَلَفَهُ يَخْلُفُهُ إِذَا ذَهَبَ الْأَوَّلُ وَجَاءَ الثَّانِي، فَاخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ تَعَاقُبُهُمَا فِي الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: / فُلَانٌ يَخْتَلِفُ إِلَى فُلَانٍ إِذَا كَانَ يَذْهَبُ إِلَيْهِ وَيَجِيءُ مِنْ عِنْدِهِ فَذَهَابُهُ يَخْلُفُ مَجِيئَهُ وَمَجِيئُهُ يَخْلُفُ ذَهَابَهُ وَكُلُّ شَيْءٍ يَجِيءُ بَعْدَ شَيْءٍ آخَرَ فَهُوَ خَلَفُهُ، وَبِهَذَا فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً [الْفُرْقَانِ: ٦٢] . وَالثَّانِي: أَرَادَ اخْتِلَافَ