للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

سِتٍّ وَسِتِّينَ دَرَجَةً مِنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ، إِلَّا أَنَّ بَطْلَيْمُوسَ زَعَمَ أَنَّ وَرَاءَ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ عِمَارَةً إِلَى بُعْدِ سِتَّ عَشْرَةَ دَرَجَةً، فَيَكُونُ عَرْضُ الْعِمَارَةِ قَرِيبًا مِنِ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ دَرَجَةً، ثُمَّ قَسَّمُوا هَذَا الْقَدْرَ الْمَعْمُورَ سَبْعَ قِطَعٍ مُسْتَطِيلَةٍ عَلَى مُوَازَاةِ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ، وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى: الْأَقَالِيمَ وَابْتِدَاؤُهُ مِنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ، وَبَعْضُهُمْ يَأْخُذُ أَوَّلَ الْأَقَالِيمِ مِنْ عِنْدَ قَرِيبٍ مِنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ دَرَجَةً مِنْ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ، وَآخِرَ الْإِقْلِيمِ السَّابِعِ إِلَى بُعْدِ خَمْسِينَ دَرَجَةً وَلَا يَعُدُّ مَا وَرَاءَهَا مِنَ الْأَقَالِيمِ، لِقِلَّةِ مَا وَجَدُوا فِيهِ مِنَ الْعِمَارَةِ.

السَّبَبُ الثَّالِثُ: لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأَرْضِ، كَوْنُ بَعْضِهَا بَرِّيًّا وَبَحْرِيًّا، وَسَهْلِيًّا وَجَبَلِيًّا، وَصَخْرِيًّا وَرَمْلِيًّا وَفِي غَوْرٍ وَعَلَى نَجْدٍ وَيَتَرَكَّبُ بَعْضُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بِبَعْضٍ فَتَخْتَلِفُ أَحْوَالُهَا اخْتِلَافًا شَدِيدًا، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا النَّوْعِ فَقَدِ اسْتَقْصَيْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً [الْبَقَرَةِ: ٢٢] وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الْأَرْضِ أَنَّهَا كُرَةٌ وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ امْتِدَادَ الْأَرْضِ فِيمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ يُسَمَّى طُولًا وَامْتِدَادَهَا بَيْنَ الشَّمَالِ وَالْجَنُوبِ يُسَمَّى عَرْضًا فَنَقُولُ: طُولُ الْأَرْضِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِيمًا أَوْ مُقَعَّرًا أَوْ مُحَدَّبًا وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ وَإِلَّا لَصَارَ جَمِيعُ وَجْهِ الْأَرْضِ مُضِيئًا دُفْعَةً وَاحِدَةً عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَصَارَ جَمِيعُهُ مُظْلِمًا دُفْعَةً وَاحِدَةً عِنْدَ غَيْبَتِهَا، لَكِنْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِأَنَّا لَمَّا اعْتَبَرْنَا مِنَ الْقَمَرِ خُسُوفًا وَاحِدًا بِعَيْنِهِ، وَاعْتَبَرْنَا مَعَهُ حَالًا مَضْبُوطًا مِنْ أَحْوَالِهِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي هِيَ أَوَّلُ الْكُسُوفِ وَتَمَامُهُ، وَأَوَّلُ انْجِلَائِهِ وَتَمَامُهُ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي البلاد المختلفة الطول في الوقت وَاحِدٍ وَوُجِدَ الْمَاضِي مِنَ اللَّيْلِ فِي الْبَلَدِ الشَّرْقِيِّ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا فِي الْبَلَدِ الْغَرْبِيِّ وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ وَإِلَّا لَوُجِدَ الْمَاضِي مِنَ اللَّيْلِ فِي الْبَلَدِ الْغَرْبِيِّ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الْبَلَدِ الشَّرْقِيِّ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَحْصُلُ فِي غَرْبِ الْمُقَعَّرِ أَوَّلًا ثُمَّ فِي شَرْقِهِ ثَانِيًا وَلَمَّا بَطَلَ الْقِسْمَانِ ثَبَتَ أَنَّ طُولَ الْأَرْضِ مُحَدَّبٌ، ثُمَّ هَذَا الْمُحَدَّبُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كُرِيًّا أَوْ عَدَسِيًّا، وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّا نَجِدُ التَّفَاوُتَ بَيْنَ أَزْمِنَةِ الْخُسُوفِ الْوَاحِدِ بِحَسَبِ التَّفَاوُتِ فِي أَجْزَاءِ الدَّائِرَةِ حَتَّى إِنَّ الْخُسُوفَ الَّذِي يَتَّفِقُ فِي أَقْصَى عِمَارَةِ الْمَشْرِقِ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، يُوجَدُ فِي أَقْصَى عِمَارَةِ الْمَغْرِبِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَثَبَتَ أَنَّهَا كُرَةٌ فِي الطُّولِ، فَأَمَّا عَرْضُ الْأَرْضِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَطَّحًا أَوْ مُقَعَّرًا أَوْ مُحَدَّبًا، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ وَإِلَّا لَكَانَ السَّالِكُ مِنَ الْجَنُوبِ عَلَى سَمْتِ الْقُطْبِ لَا يَزْدَادُ ارْتِفَاعُ الْقُطْبِ عَلَيْهِ، وَلَا يَظْهَرُ لَهُ مِنَ الْكَوَاكِبِ الْأَبَدِيَّةِ الظُّهُورِ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَكِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ أَحْوَالَهَا مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ عُرُوضِهَا، وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ وَإِلَّا لَصَارَتِ الْأَبَدِيَّةُ الظُّهُورِ خَفِيَّةً عَنْهُ عَلَى دَوَامِ تَوَغُّلِهِ في ذلك المقعر، ولا ننقص ارتفاع القطب والتوالي كاذبة على ما قطعنا فِي بَيَانِ الْمَرَاتِبِ السَّبْعَةِ الْحَاصِلَةِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ عُرُوضِ الْبُلْدَانِ وَهَذِهِ الْحُجَّةُ عَلَى حُسْنِ تَقْرِيرِهَا إِقْنَاعِيَّةٌ.

الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: ظِلُّ الْأَرْضِ مُسْتَدِيرٌ فَوَجَبَ كَوْنُ الْأَرْضِ مُسْتَدِيرَةً.

بَيَانُ الْأَوَّلِ: أَنَّ انْخِسَافَ الْقَمَرِ نَفْسُ ظِلِّ الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِانْخِسَافِهِ إِلَّا زَوَالُ النُّورِ عَنْ جَوْهَرِهِ عِنْدَ تَوَسُّطِ الْأَرْضِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّمْسِ ثُمَّ نَقُولُ: وَانْخِسَافُ الْقَمَرِ مُسْتَدِيرٌ لِأَنَّا نُحِسُّ بِالْمِقْدَارِ الْمُنْخَسِفِ مِنْهُ مُسْتَدِيرًا، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ مُسْتَدِيرَةً لِأَنَّ امْتِدَادَ الظِّلِّ يَكُونُ عَلَى شَكْلِ الْفَصْلِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْقِطْعَةِ الْمُسْتَضِيئَةِ بِإِشْرَاقِ الشَّمْسِ عَلَيْهَا، وَبَيْنَ الْقِطْعَةِ الْمُظْلِمَةِ مِنْهَا فَإِذَا كَانَ الظِّلُّ مُسْتَدِيرًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفَصْلُ الْمُشْتَرَكُ الَّذِي شَكَّلَ كُلَّ الظِّلِّ مِثْلَ شَكْلِهِ مُسْتَدِيرًا فَثَبَتَ أَنَّ الْأَرْضَ مُسْتَدِيرَةٌ ثم إن هذا الْكَلَامَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِجَانِبٍ وَاحِدٍ مِنْ جَوَانِبِ الأرض لأن المناظر الموجبة للكسوف تنفق فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ فَلَكِ الْبُرُوجِ مَعَ أَنَّ شكل الخسوف أبدا على الاستدارة فإذن الْأَرْضَ مُسْتَدِيرَةُ الشَّكْلِ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ.