كَانَ غَافِلًا عَنْ تَفَاصِيلِ مَا يَأْتِيهَا مِنَ الْأَرْزَاقِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا بِعَيْنِهِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ قَالَ لَهَا أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَظْهَرَ بِدُعَائِهِ تِلْكَ الْمُعْجِزَةَ وَالثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ زَكَرِيَّا يُشَاهِدُ عِنْدَ مَرْيَمَ رِزْقًا مُعْتَادًا إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَأْتِيهَا مِنَ السَّمَاءِ، وَكَانَ زَكَرِيَّا يَسْأَلُهَا عَنْ ذَلِكَ حَذَرًا مِنْ أَنْ يَكُونَ يَأْتِيهَا مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ يَبْعَثُهُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ.
الْمَقَامُ الثَّانِي: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ ظَهَرَ عَلَى مَرْيَمَ شَيْءٌ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، بَلْ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ سَبَّبَ لَهَا رِزْقًا عَلَى أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَرْغَبُونَ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الزَّاهِدَاتِ الْعَابِدَاتِ، فَكَانَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا رَأَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ خَافَ أَنَّهُ رُبَّمَا أَتَاهَا ذَلِكَ الرِّزْقُ مِنْ وَجْهٍ لَا يَنْبَغِي، فَكَانَ يَسْأَلُهَا عَنْ كَيْفِيَّةِ الْحَالِ، هَذَا مَجْمُوعُ مَا قَالَهُ الْجُبَّائِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» وَهُوَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُعْجِزًا لِزَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى فِي طَلَبِ ذَلِكَ، وَمَتَى كَانَ مَأْذُونًا فِي ذَلِكَ الطَّلَبِ كَانَ عَالِمًا قَطْعًا بِأَنَّهُ يَحْصُلُ، وَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهَا كَيْفِيَّةَ الْحَالِ، وَلَمْ يَبْقَ أَيْضًا لِقَوْلِهِ هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ فَائِدَةٌ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ بِعَيْنِهِ عَنِ الْوَجْهِ الثاني.
وأما سؤاله الثالث ففي غاية الركالة لِأَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ لَا يَبْقَى فِيهِ وَجْهُ اخْتِصَاصٍ لِمَرْيَمَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَأَيْضًا فَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ احْتِمَالٌ أَنَّهُ رُبَّمَا أَتَاهَا هَذَا الرِّزْقُ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي فَبِمُجَرَّدِ إِخْبَارِهَا كَيْفَ يُعْقَلُ زَوَالُ تِلْكَ التُّهْمَةِ فَعَلِمْنَا سُقُوطَ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى امْتِنَاعِ الْكَرَامَاتِ بِأَنَّهَا دَلَالَاتُ صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ، وَدَلِيلُ النُّبُوَّةِ لَا يُوجَدُ مَعَ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا أَنَّ الْفِعْلَ الْمُحْكَمَ لَمَّا كَانَ دَلِيلًا عَلَى الْعِلْمِ لَا جَرَمَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْعَالِمِ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ ظُهُورَ الْفِعْلِ الْخَارِقِ لِلْعَادَةِ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي، فَإِنِ ادَّعَى صَاحِبُهُ النُّبُوَّةَ فَذَاكَ الْفِعْلُ الْخَارِقُ لِلْعَادَةِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ نَبِيًّا، وَإِنِ ادَّعَى الْوِلَايَةَ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ وَلِيًّا وَالثَّانِي: قَالَ بَعْضُهُمُ: الْأَنْبِيَاءُ مَأْمُورُونَ بِإِظْهَارِهَا، وَالْأَوْلِيَاءُ مَأْمُورُونَ/ بِإِخْفَائِهَا وَالثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ يَدَّعِي الْمُعْجِزَ وَيَقْطَعُ بِهِ، وَالْوَلِيُّ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْطَعَ بِهِ وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْمُعْجِزَةَ يَجِبُ انْفِكَاكُهَا عَنِ الْمُعَارَضَةِ، وَالْكَرَامَةُ لَا يَجِبُ انْفِكَاكُهَا عَنِ الْمُعَارَضَةِ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ: إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ فَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِ مَرْيَمَ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَقَوْلُهُ بِغَيْرِ حِسابٍ أَيْ بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ لِكَثْرَتِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ سَأَلَهَا عَلَى سَبِيلٍ يُنَاسِبُ حُصُولَهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطَّلَاقِ: ٣] وَهَاهُنَا آخِرُ الكلام في قصة حنة.
[[سورة آل عمران (٣) : آية ٣٨]]
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨)
[القصة الثانية واقعة زكريا عليه السلام]
[في قوله تعالى هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ: