بَعْدَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الطَّعْنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ الطَّعْنُ فِيهِ، وَكَيْفَ يَجُوزُ وَصْفُهُ بِكَوْنِهِ سَلِيمَ الْقَلْبِ سَرِيعَ الِاغْتِرَارِ؟
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُضْمِرَ مُبْتَدَأً، وَالتَّقْدِيرُ: هُوَ أُذُنٌ خَيْرٌ لَكُمْ، أَيْ هُوَ أُذُنٌ مَوْصُوفٌ بِالْخَيْرِيَّةِ فِي حَقِّكُمْ، لِأَنَّهُ يَقْبَلُ مَعَاذِيرَكُمْ، وَيَتَغَافَلُ عَنْ جَهَالَاتِكُمْ، فَكَيْفَ جَعَلْتُمْ هَذِهِ الصِّفَةَ طَعْنًا فِي حَقِّهِ؟
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ وَجْهٌ مُتَكَلَّفٌ ذَكَرَهُ صَاحِبُ «النَّظْمِ» . فَقَالَ: أُذُنٌ وَإِنْ كَانَ رَفْعًا بِالِابْتِدَاءِ فِي الظَّاهِرِ لَكِنَّ مَوْضِعَهُ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ وَتَأْوِيلُهُ قُلْ هُوَ أُذُنًا خير إِذَا كَانَ أُذُنًا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ مَعَاذِيرَكُمْ، وَنَظِيرُهُ، وَهُوَ حَافِظًا خَيْرٌ لَكُمْ، أي هو حال كونه حافظا خير لَكُمْ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَحْذُوفًا وَضَعَ الْحَالَ مَكَانَ الْمُبْتَدَأِ تَقْدِيرُهُ، وَهُوَ حَافِظٌ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِضْمَارُ «هُوَ» فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. / قَالَ تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ أَيْ هُمْ ثَلَاثَةٌ، وَهَذَا الْوَجْهُ شَدِيدُ التَّكَلُّفِ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَحْسَنَهُ الْوَاحِدِيُّ جِدًّا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَرَحْمَةٍ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى خَيْرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: أُذُنُ خَيْرٍ وَرَحْمَةٍ، أَيْ مُسْتَمِعُ كَلَامٍ يَكُونُ سَبَبًا لِلْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: وَكُلُّ رَحْمَةٍ خَيْرٌ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي ذِكْرِ الرَّحْمَةِ عَقِيبَ ذِكْرِ الْخَيْرِ؟
قُلْنَا: لِأَنَّ أَشْرَفَ أَقْسَامِ الْخَيْرِ هُوَ الرَّحْمَةُ، فَجَازَ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ عَقِيبَ ذِكْرِ الْخَيْرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: ٩٨] قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ بَعِيدَةٌ لِأَنَّهُ تَبَاعَدَ الْمَعْطُوفُ عَنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْبُعْدُ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْعَطْفِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَرَأَ وَقِيلِهِ يَا رَبِّ [الزخرف: ٨٨] إِنَّمَا يَحْمِلُهُ عَلَى قَوْلِهِ: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان: ٣٤] تَقْدِيرُهُ: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَعِلْمُ قِيلِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَرَحْمَةً بِالنَّصْبِ؟
قُلْنَا: هِيَ عِلَّةٌّ مُعَلِّلُهَا مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَرَحْمَةً لَكُمْ يَأْذَنُ إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ، لِأَنَّ قوله: أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يدل عليه.
[[سورة التوبة (٩) : آية ٦٢]]
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ قَبَائِحِ أَفْعَالِ الْمُنَافِقِينَ وَهُوَ إِقْدَامُهُمْ عَلَى الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ. قِيلَ: هَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ، يَعْنِي يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيُسِيئُونَ الْقَوْلَ فِيهِ ثُمَّ يَحْلِفُونَ لَكُمْ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي رَهْطٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَتَوْهُ وَاعْتَذَرُوا وَحَلَفُوا، فَفِيهِمْ نَزَلَتِ الْآيَةُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ حَلَفُوا عَلَى أَنَّهُمْ مَا قَالُوا مَا حُكِيَ عَنْهُمْ، لِيُرْضُوا الْمُؤْمِنِينَ بِيَمِينِهِمْ، وَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ يُرْضُوا اللَّهَ بِالْإِخْلَاصِ وَالتَّوْبَةِ، لَا بِإِظْهَارِ مَا يَسْتَسِرُّونَ خِلَافَهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا [الْبَقَرَةِ:
٧٦] .
وَأَمَّا قَوْلُهُ: يُرْضُوهُ بَعْدَ تَقَدُّمِ ذِكْرِ اللَّهِ وَذِكْرِ الرَّسُولِ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُذْكَرُ مَعَ غَيْرِهِ بِالذِّكْرِ الْمُجْمَلِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُفْرَدَ بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا لَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ بِجَمِيعِ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ هُوَ اللَّهُ،