للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَإِيَّايَ

تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ لِشَرْطٍ فَمَا ذَلِكَ؟ فَنَقُولُ قوله: إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ

إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ الْمَانِعِ مِنْ عِبَادَتِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ إِذَا كَانَ لَا مَانِعَ مِنْ عِبَادَتِي فَاعْبُدُونِي، وَأَمَّا الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاعْبُدُونِ

فَهُوَ لِتَرْتِيبِ الْمُقْتَضَى عَلَى الْمُقْتَضِي كَمَا يُقَالُ هذا عالم فأكرموه فكذلك هاهنا لَمَّا أَعْلَمَ نَفْسَهُ بِقَوْلِهِ: فَإِيَّايَ

وَهُوَ لِنَفْسِهِ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ قَالَ فَاعْبُدُونِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الْعَبْدُ مِثْلَ هَذَا فِي قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وقال عقيبه: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وَاللَّهُ تَعَالَى وَافَقَهُ فِي قَوْلِهِ: فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ

وَلَمْ يَذْكُرِ الْإِعَانَةَ نَقُولُ بَلْ هِيَ مَذْكُورَةٌ في قوله يا عِبادِيَ

لِأَنَّ الْمَذْكُورَ بِعِبَادِي لَمَّا كَانَ الشَّيْطَانُ مَسْدُودَ السَّبِيلِ عَلَيْهِ مَسْدُودَ الْقَبِيلِ عَنْهُ كَانَ فِي غَايَةِ الْإِعَانَةِ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَدَّمَ اللَّهُ الْإِعَانَةَ وَأَخَّرَ الْعَبْدُ الِاسْتِعَانَةَ، قُلْنَا لِأَنَّ الْعَبْدَ فِعْلُهُ لِغَرَضٍ وَكُلُّ فِعْلٍ لِغَرَضٍ، فَإِنَّ الْغَرَضَ سَابِقٌ عَلَى الْفِعْلِ فِي الْإِدْرَاكِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يَبْنِي بَيْتًا لِلسُّكْنَى يَدْخُلُ فِي ذِهْنِهِ أَوَّلًا فَائِدَةُ السُّكْنَى فَيَحْمِلُهُ عَلَى الْبِنَاءِ، لَكِنَّ الْغَرَضَ فِي الْوُجُودِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ فِعْلِ الْوَاسِطَةِ، فَنَقُولُ الِاسْتِعَانَةُ مِنَ الْعَبْدِ لِغَرَضِ الْعِبَادَةِ فَهِيَ سَابِقَةٌ فِي إِدْرَاكِهِ، وَأَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَلَيْسَ فِعْلُهُ لِغَرَضٍ فَرَاعَى تَرْتِيبَ الْوُجُودِ، فَإِنَّ الإعانة قبل العبادة. ثم قال تعالى:

[[سورة العنكبوت (٢٩) : آية ٥٧]]

كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧)

لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُهَاجِرَةِ صَعُبَ عَلَيْهِمْ تَرْكُ الْأَوْطَانِ وَمُفَارَقَةُ الْإِخْوَانِ، فَقَالَ لَهُمْ إِنَّ مَا تَكْرَهُونَ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ فَإِنَّ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَالْمَوْتُ مُفَرِّقُ الأحباب فلأولى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُجَازِيَكُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعَكُمْ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَرَقُّ وَأَدَقُّ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: كُلُّ نَفْسٍ إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُتَعَلِّقَةٍ بِغَيْرِهَا فَهِيَ لِلْمَوْتِ، ثُمَّ إِلَى اللَّهِ تَرْجِعُ فَلَا تَمُوتُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ [الدُّخَانِ:

٥٦] إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَنْ يُرِيدُ أَلَّا يَذُوقَ الْمَوْتَ لَا يَبْقَى مَعَ نَفْسِهِ فَإِنَّ/ النَّفْسَ ذَائِقَتُهُ بَلْ يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ وَذَلِكَ الْغَيْرُ إِنْ كَانَ غَيْرَ اللَّهِ فَهُوَ ذَائِقُ الْمَوْتِ وَمُورِدُ الْهَلَاكِ بِقَوْلِهِ: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وكُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [الْقَصَصِ: ٨٨] فَإِذًا التَّعَلُّقُ بِاللَّهِ يُرِيحُ مِنَ الْمَوْتِ فَقَالَ تَعَالَى فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ

أَيْ تَعَلَّقُوا بِي، وَلَا تَتَّبِعُوا النَّفْسَ فَإِنَّهَا ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ أَيْ إِذَا تَعَلَّقْتُمْ بِي فَمَوْتُكُمْ رُجُوعٌ إِلَيَّ وَلَيْسَ بِمَوْتٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى:

وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ [آلِ عِمْرَانَ: ١٦٩]

وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْمُؤْمِنُونَ لَا يَمُوتُونَ بَلْ يُنْقَلُونَ مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ»

فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا يَتَبَيَّنُ وَجْهُ التَّعَلُّقِ. ثم قال تعالى:

[[سورة العنكبوت (٢٩) : آية ٥٨]]

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨)

بَيَّنَ مَا يَكُونُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَقْتَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ كَمَا بَيَّنَ مِنْ قَبْلُ مَا يَكُونُ لِلْكَافِرِينَ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ [الْعَنْكَبُوتِ: ٥٤] فَبَيَّنَ أَنَّ لِلْمُؤْمِنِينَ الْجِنَانَ فِي مُقَابَلَةِ مَا أَنَّ لِلْكَافِرِينَ النِّيرَانَ، وَبَيَّنَ أَنَّ فِيهَا غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فِي مُقَابَلَةِ مَا بَيَّنَ أَنَّ تَحْتَ الْكَافِرِينَ النَّارَ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ أَجْرُ عَمَلِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ فِي مُقَابَلَةِ مَا بَيَّنَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ جَزَاءُ عَمَلِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت:

٥٥] ثُمَّ فِي الْآيَتَيْنِ اخْتِلَافَاتٌ فِيهَا لَطَائِفُ مِنْهَا أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْعَذَابِ أَنَّ فَوْقَهُمْ عذابا أي نارا، ولم يذكر هاهنا

<<  <  ج: ص:  >  >>