وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الذِّكْرِ ذِكْرُ اللَّهِ بِالثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ مَسْأَلَةً، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَدِّمَ عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ، فَهُنَا لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ الِاسْتِغْفَارَ مِنَ الذُّنُوبِ قَدَّمُوا عَلَيْهِ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ اشْتَغَلُوا بِالِاسْتِغْفَارِ عَنِ الذُّنُوبِ.
ثُمَّ قَالَ: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْإِتْيَانُ بِالتَّوْبَةِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ النَّدَمُ عَلَى فِعْلِ مَا مَضَى مع العز عَلَى تَرْكِ مِثْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ، فَأَمَّا الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ، فَذَاكَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي إِزَالَةِ الذَّنْبِ، بَلْ يَجِبُ إِظْهَارُ هَذَا الِاسْتِغْفَارِ لِإِزَالَةِ التُّهْمَةِ، وَلِإِظْهَارِ كَوْنِهِ مُنْقَطِعًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ:
لِذُنُوبِهِمْ أَيْ لِأَجْلِ ذُنُوبِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ لَا يَطْلُبَ الْعَبْدُ الْمَغْفِرَةَ إِلَّا مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْقَادِرُ عَلَى عِقَابِ الْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَكَانَ هُوَ الْقَادِرَ عَلَى إِزَالَةِ ذَلِكَ الْعِقَابِ عَنْهُ، فَصَحَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ طَلَبُ الِاسْتِغْفَارِ إِلَّا مِنْهُ.
ثُمَّ قَالَ: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا.
وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حَالٌ مِنْ فِعْلِ الْإِصْرَارِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَمْ يُصِرُّوا/ عَلَى مَا فَعَلُوا مِنَ الذُّنُوبِ حَالَ مَا كَانُوا عَالِمِينَ بِكَوْنِهَا مَحْظُورَةً مُحَرَّمَةً لِأَنَّهُ قَدْ يُعْذَرُ مَنْ لَا يَعْلَمُ حُرْمَةَ الْفِعْلِ، أَمَّا الْعَالِمُ بِحُرْمَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُعْذَرُ فِي فِعْلِهِ أَلْبَتَّةَ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعَقْلَ وَالتَّمْيِيزَ وَالتَّمْكِينَ مِنَ الِاحْتِرَازِ مِنَ الْفَوَاحِشِ فَيَجْرِي مَجْرَى
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ» .
ثُمَّ قَالَ: أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: الْأَمْنُ مِنَ الْعِقَابِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَالثَّانِي: إِيصَالُ الثواب اليه وهو المراد بقوله: جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الْغُفْرَانُ وَالْجَنَّاتُ يَكُونُ أَجْرًا لِعَمَلِهِمْ وَجَزَاءً عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّ الثَّوَابَ تَفَضُّلٌ مِنَ اللَّهِ وَلَيْسَ بِجَزَاءٍ على عملهم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٧ الى ١٣٨]
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨)
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالتَّوْبَةِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ الْغُفْرَانَ وَالْجَنَّاتِ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ وَعَلَى التَّوْبَةِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَهُوَ تَأَمُّلُ أَحْوَالِ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ مِنَ الْمُطِيعِينَ وَالْعَاصِينَ فَقَالَ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَصْلُ الْخُلُوِّ فِي اللُّغَةِ الِانْفِرَادُ وَالْمَكَانُ الْخَالِي هُوَ الْمُنْفَرِدُ عَمَّنْ يَسْكُنُ فِيهِ وَيُسْتَعْمَلُ أَيْضًا فِي الزَّمَانِ بِمَعْنَى الْمُضِيِّ لِأَنَّ مَا مَضَى انْفَرَدَ عَنِ الْوُجُودِ وَخَلَا عَنْهُ، وَكَذَا الْأُمَمُ الْخَالِيَةُ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُسْتَقِيمَةُ وَالْمِثَالُ الْمُتَّبَعُ، وَفِي اشْتِقَاقِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا فُعْلَةٌ مِنْ سَنَّ الْمَاءَ يَسُنُّهُ إِذَا وَالَى صَبَّهُ، وَالسَّنُّ الصَّبُّ لِلْمَاءِ، وَالْعَرَبُ شَبَّهَتِ الطَّرِيقَةَ الْمُسْتَقِيمَةَ بِالْمَاءِ الْمَصْبُوبِ فَإِنَّهُ لِتَوَالِي أَجْزَاءِ الْمَاءِ فِيهِ عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ يَكُونُ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَالسُّنَّةُ فُعْلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَثَانِيهَا: أَنْ تَكُونَ مِنْ سَنَنْتُ