للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْقَوْلُ فِي: بُعْثِرَ مَضَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ [الِانْفِطَارِ: ٤] وَذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى: بُعْثِرَتْ بُعِثَ وَأُثِيرَ وَأُخْرِجَ، وَقُرِئَ (بُحْثِرَ) .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَسْأَلَ لِمَ قَالَ: بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَلَمْ يَقُلْ: بُعْثِرَ مَنْ فِي الْقُبُورِ؟ ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا قَالَ: مَا فِي الْقُبُورِ، فَلِمَ قَالَ: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّ رَبَّهَا بِهَا يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ؟ الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: هُوَ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ الْمُكَلَّفِينَ أَكْثَرُ فَأَخْرَجَ الْكَلَامَ عَلَى الْأَغْلَبِ، أَوْ يُقَالُ: إِنَّهُمْ حَالَ مَا يُبْعَثُونَ لَا يَكُونُونَ أَحْيَاءً عُقَلَاءَ بَلْ بَعْدَ الْبَعْثِ يَصِيرُونَ كَذَلِكَ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الضَّمِيرُ الْأَوَّلُ ضَمِيرَ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ، وَالضَّمِيرُ الثَّانِي ضَمِيرَ الْعُقَلَاءِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:

[[سورة العاديات (١٠٠) : آية ١٠]]

وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (١٠)

قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ مُيِّزَ مَا فِي الصُّدُورِ، وَقَالَ اللَّيْثُ: الْحَاصِلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَا بَقِيَ وَثَبَتَ وَذَهَبَ سِوَاهُ، وَالتَّحْصِيلُ تَمْيِيزُ مَا يَحْصُلُ وَالِاسْمُ الْحَصِيلَةُ قَالَ لَبِيدٌ:

وَكُلُّ امْرِئٍ يَوْمًا سَيَعْلَمُ سَعْيَهُ ... إِذَا حَصَلَتْ عِنْدَ الْإِلَهِ الْحَصَائِلُ

وَفِي التَّفْسِيرِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: مَعْنَى حُصِّلَ جُمِعَ فِي الصُّحُفِ، أَيْ أُظْهِرَتْ مُحَصَّلًا مَجْمُوعًا وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمُبَاحِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْمَحْظُورِ، فَإِنَّ لِكُلٍّ وَاحِدٌ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمُنْخُلِ:

الْمُحَصِّلُ وَثَالِثُهَا: أَنَّ كَثِيرًا مَا يَكُونُ بَاطِنُ الْإِنْسَانِ بِخِلَافِ ظَاهِرِهِ، أَمَّا فِي يوم القيامة فإنه تنكشف الْأَسْرَارُ وَتُنْتَهَكُ الْأَسْتَارُ، وَيَظْهَرُ مَا فِي الْبَوَاطِنِ، كَمَا قَالَ: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطَّارِقِ: ٩] .

وَاعْلَمْ أَنَّ حَظَّ الْوَعْظِ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّكَ تَسْتَعِدُّ فِيمَا لَا فَائِدَةَ لَكَ فِيهِ، فَتَبْنِي الْمَقْبَرَةَ وَتَشْتَرِي/ التَّابُوتَ، وَتُفَصِّلُ الْكَفَنَ وَتَغْزِلُ الْعَجُوزُ الْكَفَنَ، فَيُقَالُ: هَذَا كُلُّهُ لِلدِّيدَانِ، فَأَيْنَ حَظُّ الرَّحْمَنِ! بَلِ الْمَرْأَةُ إِذَا كَانَتْ حَامِلًا فَإِنَّهَا تُعِدُّ لِلطِّفْلِ ثِيَابًا، فَإِذَا قُلْتَ لَهَا: لَا طِفْلَ لَكِ فَمَا هَذَا الِاسْتِعْدَادُ؟ فَتَقُولُ: أَلَيْسَ يُبَعْثَرُ مَا فِي بَطْنِي؟ فَيَقُولُ الرَّبُّ لَكَ: أَلَا يُبَعْثَرُ مَا فِي بَطْنِ الْأَرْضِ فَأَيْنَ الِاسْتِعْدَادُ، وَقُرِئَ (وَحَصَلَ) بِالْفَتْحِ وَالتَّخْفِيفِ بِمَعْنَى ظَهَرَ. ثم قال:

[[سورة العاديات (١٠٠) : آية ١١]]

إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١)

اعْلَمْ أَنَّ فِيهِ سُؤَالَاتٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ عِلْمَهُ بِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِ الْخِبْرَةِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي سَبْقَ الْجَهْلِ وَهُوَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا، فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِسَبَبِ الِاخْتِبَارِ عَالِمًا، فَمَنْ كَانَ لَمْ يَزَلْ عَالِمًا أَنْ يَكُونَ خَبِيرًا بِأَحْوَالِكَ! وَثَانِيهِمَا: أَنَّ فَائِدَةَ تَخْصِيصِ ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ مَعَ كَوْنِهِ عَالِمًا لَمْ يَزَلْ أَنَّهُ وَقْتَ الْجَزَاءِ، وَتَقْرِيرُهُ لِمَنِ الْمُلْكُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا حَاكِمَ يَرُوجُ حُكْمُهُ وَلَا عَالِمَ تَرُوجُ فَتْوَاهُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا هُوَ، وَكَمْ عَالِمٍ لَا يَعْرِفُ الْجَوَابَ وَقْتَ الْوَاقِعَةِ ثُمَّ يَتَذَكَّرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: لَسْتُ كَذَلِكَ.

السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ خَصَّ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ بِالذِّكْرِ فِي قَوْلِهِ: وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ وَأَهْمَلَ ذِكْرَ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ؟

<<  <  ج: ص:  >  >>