للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها

[هُودٍ: ٦] فَكَأَنَّهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ تَطْلُبُ أَرْزَاقَهَا مِنْ خَالِقِهَا فَصَارَتْ شَبِيهَةً بِمَنْ يَعْقِلُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، فَلَمْ يَبْعُدْ ذِكْرُهَا بِصِيغَةِ مَنْ يعقل، ألا ترى أنه قال: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النحل: ١٨] فَذَكَرَهَا بِصِيغَةِ جَمْعِ الْعُقَلَاءِ، وَقَالَ فِي الْأَصْنَامِ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي [الشُّعَرَاءِ: ٧٧] وَقَالَ: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: ٣٣] فكذا هاهنا لَا يَبْعُدُ إِطْلَاقُ اللَّفْظَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْعُقَلَاءِ عَلَى الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ لِكَوْنِهَا شَبِيهَةً بِالْعُقَلَاءِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَسَمِعْتُ فِي بَطْنِ الْحِكَايَاتِ أَنَّهُ قَلَّتِ الْمِيَاهُ فِي الْأَوْدِيَةِ وَالْجِبَالِ وَاشْتَدَّ الْحَرُّ فِي عَامٍ مِنَ الْأَعْوَامِ فَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ رَأَى بَعْضَ الْوَحْشِ رَافِعًا رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ عِنْدَ اشْتِدَادِ عَطَشِهِ قَالَ: فَرَأَيْتُ الْغُيُومَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَأَمْطَرَتْ بِحَيْثُ امْتَلَأَتِ الْأَوْدِيَةُ مِنْهَا.

وَالِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ: أَنَّا نَحْمِلُ قَوْلَهُ: وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ عَلَى الْإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ، وَعَلَى الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ عَلَيْهَا صِيغَةَ مَنْ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْعُقَلَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ.

المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا عَطْفًا عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي لَكُمْ، لِأَنَّهُ لَا يُعْطَفُ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ، لَا يُقَالُ أَخَذْتُ مِنْكَ وَزَيْدٍ إِلَّا بِإِعَادَةِ الْخَافِضِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الْأَحْزَابِ: ٧] .

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا المعنى جائز على قراءة من قرأ: تسائلون به والأرحام [النساء: ١] بِالْخَفْضِ وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ المسألة هُنَالِكَ. وَاللَّهُ أعلم.

[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢١ الى ٢٢]

وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢)

[في قوله تَعَالَى وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ أَنْبَتَ فِي الْأَرْضِ كُلَّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلَ فِيهَا مَعَايِشَ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَا هُوَ كَالسَّبَبِ لِذَلِكَ فَقَالَ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ.

وَهَذَا هُوَ النوع الرَّابِعُ مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْخَزَائِنُ جَمْعُ الْخِزَانَةِ، وَهُوَ اسْمُ الْمَكَانِ الَّذِي يُخْزَنُ فِيهِ الشَّيْءُ أَيْ يُحْفَظُ وَالْخِزَانَةُ أَيْضًا عَمَلُ الْخَازِنِ، وَيُقَالُ: خَزَنَ الشَّيْءَ يَخْزِنُهُ إِذَا أَحْرَزَهُ فِي خِزَانَةٍ، وَعَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ هُوَ الْمَطَرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ لِلْأَرْزَاقِ وَلِمَعَايِشِ بَنِي آدَمَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الطُّيُورِ وَالْوُحُوشِ، فَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ يُعْطِيهِمُ الْمُعَايِشَ بَيَّنَ أَنَّ خَزَائِنَ الْمَطَرِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْمَعَايِشِ عِنْدَهُ، أَيْ فِي أَمْرِهِ وَحُكْمِهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَقَوْلِهِ: وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ:

يُرِيدُ قَدْرَ الْكِفَايَةِ، وَقَالَ الحكم: مَا مِنْ عَامٍ بِأَكْثَرَ مَطَرًا مِنْ عَامٍ آخَرَ، وَلَكِنَّهُ يُمْطَرُ قَوْمٌ وَيُحْرَمُ قَوْمٌ آخَرُونَ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي الْبَحْرِ، يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنْزِلُ الْمَطَرَ كُلَّ عَامٍ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ، غَيْرَ أَنَّهُ يَصْرِفُهُ إِلَى مَنْ يَشَاءُ حَيْثُ شَاءَ كَمَا شَاءَ.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَفْظُ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُنْزِلُهُ فِي جَمِيعِ الْأَعْوَامِ عَلَى قَدْرٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى تَحَكُّمًا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. وَأَقُولُ أَيْضًا: تَخْصِيصُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ بِالْمَطَرِ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ،

<<  <  ج: ص:  >  >>