كَوْنُهُ مَوْجُودًا فِي جِهَةِ فَوْقُ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ جَالِسٌ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مُبَايِنٌ لِلْعَرْشِ بِبُعْدٍ مُتَنَاهٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مُبَايِنٌ لِلْعَرْشِ بِبُعْدٍ غَيْرِ مُتَنَاهٍ، وَكَيْفَ كَانَ فَإِنَّ الْمُشَبِّهَةَ حَمَلُوا لَفْظَ الْعَظِيمِ وَالْكَبِيرِ عَلَى الْجِسْمِيَّةِ وَالْمِقْدَارِ/ وَحَمَلُوا لَفْظَ الْعَلِيِّ عَلَى الْعُلُوِّ فِي الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ التَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ فَإِنَّهُمْ حَمَلُوا الْعَظِيمَ وَالْكَبِيرَ عَلَى وُجُوهٍ لَا تُفِيدُ الْجِسْمِيَّةَ وَالْمِقْدَارَ: فَأَحَدُهَا: أَنَّهُ عَظِيمٌ بِحَسَبِ مُدَّةِ الْوُجُودِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ، وَذَلِكَ هُوَ نِهَايَةُ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ فِي الْوُجُودِ وَالْبَقَاءِ وَالدَّوَامِ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَظِيمٌ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ عَظِيمٌ فِي الرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ عَظِيمٌ فِي كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَأَمَّا الْعُلُوُّ فَأَهْلُ التَّنْزِيهِ يَحْمِلُونَ هَذَا اللَّفْظَ عَلَى كَوْنِهِ مُنَزَّهًا عَنْ صِفَاتِ النَّقَائِصِ وَالْحَاجَاتِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَلَفْظُ الْعَظِيمِ وَالْكَبِيرِ عِنْدَ الْمُشَبِّهَةِ مِنْ أَسْمَاءِ الذَّاتِ، وَعِنْدَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ مِنْ أَسْمَاءِ الصِّفَاتِ، وَأَمَّا لَفْظُ الْعَلِيِّ فَعِنْدَ الْكُلِّ مِنْ أَسْمَاءِ الصِّفَاتِ، إِلَّا أَنَّهُ عِنْدَ الْمُشَبِّهَةِ يُفِيدُ الْحُصُولَ فِي الْحَيِّزِ الَّذِي هُوَ الْعُلُوُّ الْأَعْلَى، وَعِنْدَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ يُفِيدُ كَوْنَهُ مُنَزَّهًا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِالْإِلَهِيَّةِ، فَهَذَا تَمَامُ الْبَحْثِ فِي هَذَا الْبَابِ.
الْفَصْلُ التَّاسِعُ فِي الْأَسْمَاءِ الْحَاصِلَةِ لله تعالى من باب الأسماء المضمرة
الْأَسْمَاءِ الْمُضْمَرَةِ:
اعْلَمْ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمُضْمَرَةَ ثَلَاثَةٌ: أَنَا، وَأَنْتَ، وَهُوَ، وَأَعْرَفُ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ قَوْلُنَا: «أَنَا» لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَفْظٌ يُشِيرُ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ إِلَى نَفْسِهِ، وَأَعْرَفُ الْمَعَارِفِ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ نَفْسُهُ، وَأَوْسَطُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ قَوْلُنَا: «أَنْتَ» لِأَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِلْغَيْرِ بِشَرْطِ كَوْنِهِ حَاضِرًا، فَلِأَجْلِ كَوْنِهِ خِطَابًا لِلْغَيْرِ يَكُونُ دُونَ قَوْلِهِ أَنَا، وَلِأَجْلِ أَنَّ الشَّرْطَ فِيهِ كَوْنُ ذَلِكَ الْمُخَاطَبِ حَاضِرًا يَكُونُ أَعْلَى مِنْ قَوْلِهِ: «هُوَ» فَثَبَتَ أَنَّ أَعْلَى الْأَقْسَامِ هُوَ قَوْلُهُ: «أَنَا» وَأَوْسَطُهَا «أَنْتَ» وَأَدْنَاهَا «هُوَ» وَكَلِمَةُ التَّوْحِيدِ وَرَدَتْ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، أَمَّا لَفْظُ «أَنَا» فَقَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا [النَّحْلِ: ٢] وَفِي سُورَةِ طه إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا [طه: ١٤] وَأَمَّا لَفْظُ أَنْتَ فَقَدَ جَاءَ فِي قَوْلِهِ: فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٨٧] وَأَمَّا لَفْظُ هُوَ فَقَدْ جَاءَ كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ أَوَّلُهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ [الْبَقَرَةِ: ١٦٣] وَآخِرُهَا فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ وَهُوَ قَوْلُهُ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [الْمُزَّمِّلِ: ٩] وَأَمَّا وُرُودُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَقْرُونًا بِاسْمٍ آخَرَ سِوَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فَهُوَ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ قَالَ: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ [يُونُسَ: ٩٠] ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ تِلْكَ الْكَلِمَةَ مَا قُبِلَتْ مِنْهُ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَلْنَذْكُرْ أَحْكَامَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ فَنَقُولُ: أَمَّا قَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ أَوْ مَنْ يَذْكُرُهُ عَلَى سَبِيلِ الْحِكَايَةِ عَنِ اللَّهِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْكَلِمَةَ تَقْتَضِي إِثْبَاتَ الْإِلَهِيَّةِ لِذَلِكَ الْقَائِلِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْرِفَةَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَشْرُوطَةٌ بِمَعْرِفَةِ قَوْلِهِ: «أَنَا» وَتِلْكَ الْمَعْرِفَةُ عَلَى سَبِيلِ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لِأَنَّ عِلْمَ كُلِّ أَحَدٍ بِذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ أَكْمَلُ مِنْ عِلْمِ غَيْرِهِ بِهِ، لَا سِيَّمَا فِي حَقِّ الْحَقِّ تَعَالَى، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا» لَمْ يَحْصُلِ الْعِلْمُ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute