للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِظْهَارَ وَقَارِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يُعَجِّلُونَ بِالِانْتِقَامِ لِوُثُوقِهِمْ بِأَنَّ عَدُوَّهُمْ لَا يَفُوتُهُمْ، فَعَلَى ذَلِكَ جَرَى وَعْدُ اللَّه وَوَعِيدُهُ.

الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّ عَذَابَ الْحِجَابِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ [الْمُطَفِّفِينَ: ١٥، ١٦] فَقَدَّمَ الْحِجَابَ عَلَى الْجَحِيمِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ كَانُوا مَحْجُوبِينَ فِي الْحَالِ، فَكَانَ سَبَبُ الْعَذَابِ بِكَمَالِهِ حَاصِلًا، إِلَّا أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا كَالْعَائِقِ عَنْ إِدْرَاكِ ذَلِكَ الْأَلَمِ، كَمَا أَنَّ الْعُضْوَ الْخَدِرَ إِذَا مَسَّتْهُ النَّارُ، فَإِنَّ سَبَبَ الْأَلَمِ حَاصِلٌ فِي الْحَالِ، لَكِنَّهُ لَا يَحْصُلُ الشُّعُورُ بِذَلِكَ الْأَلَمِ لِقِيَامِ الْعَائِقِ، فَإِذَا زال العائق عظم البلاء، فكذا هاهنا إِذَا زَالَ الْبَدَنُ عَظُمَ عَذَابُ الْحِجَابِ، فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ يَعْنِي الْمُقْتَضِيَ لَهُ وَالْمُؤَثِّرَ فِيهِ حَاصِلٌ، وَتَمَامُهُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بَعْدَ الْمَوْتِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ/ السَّبَبَ فِي تَرْكِ تَعْجِيلِ الْعَذَابِ فَقَالَ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَالْفَضْلُ الْإِفْضَالُ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مُتَفَضِّلٌ عَلَيْهِمْ بِتَأْخِيرِ الْعُقُوبَةِ، وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْرِفُونَ هَذِهِ النِّعْمَةَ وَلَا يَشْكُرُونَهَا، وَهَذِهِ الْآيَةُ تُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ لَا نِعْمَةَ للَّه عَلَى الْكُفَّارِ ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَقَالَ: وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ وهاهنا بَحْثٌ عَقْلِيٌّ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدَّمَ مَا تُكِنُّهُ صُدُورُهُمْ عَلَى مَا يُعْلِنُونَ مِنَ الْعِلْمِ وَالسَّبَبُ أَنَّ مَا تُكِنُّهُ صُدُورُهُمْ هُوَ الدَّوَاعِي وَالْقُصُودُ، وَهِيَ أَسْبَابٌ لِما يُعْلِنُونَ، وَهِيَ أَفْعَالُ الْجَوَارِحِ، وَالْعِلْمُ بِالْعِلَّةِ عِلَّةٌ لِلْعِلْمِ بِالْمَعْلُولِ، فَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ التَّقْدِيمِ، قُرِئَ (تَكُنُّ) يُقَالُ كَنَنْتُ الشَّيْءَ وَأَكْنَنْتُهُ إِذَا سَتَرْتَهُ وَأَخْفَيْتَهُ، يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا يُخْفُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ مِنْ عَدَاوَةِ الرَّسُولِ وَمَكَايِدِهِمْ.

أَمَّا قَوْلُهُ: وَما مِنْ غائِبَةٍ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : سُمِّيَ الشَّيْءُ الَّذِي يَغِيبُ وَيَخْفَى غَائِبَةٌ وَخَافِيَةٌ، فَكَانَتِ التَّاءُ فِيهَا بِمَنْزِلَتِهَا فِي الْعَاقِبَةِ وَالْعَافِيَةِ وَالنَّطِيحَةِ وَالذَّبِيحَةِ وَالرَّمِيَّةِ فِي أَنَّهَا أَسْمَاءٌ غَيْرُ صِفَاتٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا صِفَتَيْنِ وَتَاؤُهُمَا لِلْمُبَالَغَةِ كَالرَّاوِيَةِ فِي قَوْلِهِمْ: وَيْلٌ لِلشَّاعِرِ مِنْ رَاوِيَةِ السُّوءِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَمَا مِنْ شَيْءٍ شَدِيدِ الْغَيْبُوبَةِ وَالْخَفَاءِ، إِلَّا وَقَدْ عَلِمَهُ اللَّه تَعَالَى وَأَحَاطَ بِهِ، وَأَثْبَتَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَالْمُبَيَّنِ الظَّاهِرِ البين لمن ينظر فيه من الملائكة.

[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٧٦ الى ٨١]

إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠)

وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١)

اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا تَمَّمَ الْكَلَامَ فِي إِثْبَاتِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنُّبُوَّةِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْعُمْدَةُ الْكُبْرَى فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْقُرْآنَ، لَا جَرَمَ بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى أَوَّلًا كَوْنَهُ/ مُعْجِزَةً مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: إِنَّ الْأَقَاصِيصَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْقُرْآنِ مُوَافِقَةٌ لِمَا كَانَتْ مَذْكُورَةً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ أُمِّيًّا، وَأَنَّهُ لَمْ يُخَالِطْ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ وَلَمْ يَشْتَغِلْ قَطُّ بِالِاسْتِفَادَةِ وَالتَّعَلُّمِ، فَإِذَنْ لَا يَكُونُ

<<  <  ج: ص:  >  >>