أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى
فَفِي تَقْرِيرِ هَذَا الْجَوَابِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَنْزَلَ بِهِ هَذَا الْعَمَى جَزَاءً عَلَى تَرْكِهِ اتِّبَاعَ الْهُدَى وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ. وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ إِذَا فَارَقَتْ أَبْدَانَهَا جَاهِلَةً ضَالَّةً عَنِ الِاتِّصَالِ بِالرُّوحَانِيَّاتِ بَقِيَتْ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ وَعَظُمَتِ الْآلَامُ الرُّوحَانِيَّةُ، فَلِهَذَا عَلَّلَ اللَّه تَعَالَى حُصُولَ الْعَمَى فِي الْآخِرَةِ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الدَّلَائِلِ فِي الدُّنْيَا، وَمَنْ فَسَّرَ الْمَعِيشَةَ الضَّنْكَ بِالضِّيقِ فِي الدُّنْيَا، قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ فِي الدُّنْيَا فَلَهُ الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ فِي الدُّنْيَا، وَالْعَمَى فِي الْآخِرَةِ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ فَقَدِ/ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَبَعْضُهُمْ قَالَ: أَشْرَكَ وَكَفَرَ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ: أَسْرَفَ فِي أَنْ عَصَى اللَّه وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى الْمُرَادَ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: أَسْرَفَ وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَجْزِي مَنْ هَذَا حَالُهُ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ وَالْعَمَى وَبَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ: عَذَابَ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى أَمَّا الْأَشَدُّ فَلِعِظَمِهِ، وَأَمَّا الْأَبْقَى فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٢٨ الى ١٣٠]
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ مِنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ كَيْفَ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَتْبَعَهُ بِمَا يَعْتَبِرُ [بِهِ] الْمُكَلَّفُ مِنَ الْأَحْوَالِ الْوَاقِعَةِ فِي الدُّنْيَا بِمَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَقَالَ: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ وَالْقِرَاءَةُ الْعَامَّةُ أَفَلَمْ يَهْدِ بِالْيَاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ تَحْتُ وَفَاعِلُهُ هُوَ قَوْلُهُ: كَمْ أَهْلَكْنا قَالَ الْقَفَّالُ: جَعَلَ كَثْرَةَ مَا أَهْلَكَ مِنَ الْقُرُونِ مُبَيَّنًا لَهُمْ، كَمَا جَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ وَاعِظًا لَهُمْ وَزَاجِرًا، وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ أَفَلَمْ نَهْدِ لَهُمْ بِالنُّونِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: يَعْنِي أَفَلَمْ نُبَيِّنْ لَهُمْ بَيَانًا يَهْتَدُونَ بِهِ لَوْ تَدَبَّرُوا وَتَفَكَّرُوا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَمْ أَهْلَكْنا فَالْمُرَادُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي كَثْرَةِ مَنْ أَهْلَكَهُ اللَّه تَعَالَى مِنَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ أَنَّ قُرَيْشًا يُشَاهِدُونَ تِلْكَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةَ الدَّالَّةَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ، وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ ضُرُوبِ الْهَلَاكِ، وَلِلْمُشَاهَدَةِ فِي ذَلِكَ مِنَ الِاعْتِبَارِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ آيَاتٌ لِأُولِي النُّهَى، أَيْ لِأَهْلِ الْعُقُولِ وَالْأَقْرَبُ أَنَّ لِلنُّهْيَةِ مَزِيَّةً عَلَى الْعَقْلِ، وَالنُّهَى لَا يُقَالُ إِلَّا فِيمَنْ لَهُ عَقْلٌ يَنْتَهِي بِهِ عَنِ الْقَبَائِحِ، كَمَا أَنَّ لِقَوْلِنَا: أُولُو الْعَزْمِ مَزِيَّةً على أولو الْحَزْمِ، فَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: أَهْلُ الْوَرَعِ وَأَهْلُ التَّقْوَى، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى الْوَجْهَ الَّذِي لِأَجْلِهِ لَا يُنَزَّلُ الْعَذَابُ مُعَجَّلًا عَلَى/ مَنْ كَذَّبَ وَكَفَرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى وَفِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وَأَجَلٌ مُسَمًّى لَكَانَ لِزَامًا، وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْكَلِمَةَ هِيَ إِخْبَارُ اللَّه تَعَالَى مَلَائِكَتَهُ وَكَتْبُهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَنَّ أُمَّتَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ كَذَّبُوا فَسَيُؤَخَّرُونَ وَلَا يُفْعَلُ بِهِمْ مَا يُفْعَلُ بِغَيْرِهِمْ مِنَ الِاسْتِئْصَالِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لِأَجْلِهِ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ، وَقَالَ آخَرُونَ: عَلِمَ أَنَّ فِي نَسْلِهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ وَلَوْ أَنْزَلَ بِهِمُ الْعَذَابَ لَعَمَّهُمُ الْهَلَاكُ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْمَصْلَحَةُ فِيهِ خَفِيَّةٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: لَهُ بِحُكْمِ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَخُصَّ مَنْ شَاءَ بِفَضْلِهِ وَمَنْ شَاءَ بِعَذَابِهِ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ، إِذْ لَوْ كَانَ فِعْلُهُ لِعِلَّةٍ لَكَانَتْ تِلْكَ الْعِلَّةُ إِنْ كَانَتْ قَدِيمَةً لَزِمَ قِدَمُ الْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَتْ حَادِثَةً افْتَقَرَتْ إِلَى عِلَّةٍ أُخْرَى وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، فَلِهَذَا قَالَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute