[سورة الدخان (٤٤) : الآيات ١٠ الى ١٦]
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤)
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦)
اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فَارْتَقِبْ انْتَظِرْ وَيُقَالُ ذَلِكَ فِي الْمَكْرُوهِ، وَالْمَعْنَى انْتَظِرْ يَا مُحَمَّدُ عَذَابَهُمْ فَحُذِفَ مَفْعُولُ الِارْتِقَابِ لِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ بَعْدَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ مفعول الارتقاب وقوله بِدُخانٍ فيه قولان:
الْأَوَّلُ: أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَى قَوْمِهِ بِمَكَّةَ لَمَّا كَذَّبُوهُ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ سِنِيَّهِمْ كَسِنِيِّ يُوسُفَ» فَارْتَفَعَ الْمَطَرُ وَأَجْدَبَتِ الْأَرْضُ وَأَصَابَتْ قُرَيْشًا شِدَّةُ الْمَجَاعَةِ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ وَالْكِلَابَ وَالْجِيَفَ، فَكَانَ الرَّجُلُ لِمَا بِهِ مِنَ الْجُوعِ يَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ كَالدُّخَانِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَمُقَاتِلٍ وَمُجَاهِدٍ وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ وَالزَّجَّاجِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَكَانَ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ الدُّخَانُ إِلَّا هَذَا الَّذِي أَصَابَهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ كَالظُّلْمَةِ فِي أَبْصَارِهِمْ حَتَّى كَانُوا كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ دُخَانًا، فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الدُّخَانَ هُوَ الظُّلْمَةُ الَّتِي فِي أَبْصَارِهِمْ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ، وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي تَفْسِيرِ الدُّخَانِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ فِي سَنَةِ الْقَحْطِ يَعْظُمُ يُبْسُ الْأَرْضِ بِسَبَبِ انْقِطَاعِ الْمَطَرِ وَيَرْتَفِعُ الْمَطَرُ وَيَرْتَفِعُ الْغُبَارُ الْكَثِيرُ وَيُظْلِمُ الْهَوَاءُ، وَذَلِكَ يُشْبِهُ الدُّخَانَ وَلِهَذَا يُقَالُ لِسَنَةِ الْمَجَاعَةِ الْغَبْرَاءُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ يُسَمُّونَ الشَّرَّ الْغَالِبَ بِالدُّخَانِ فَيَقُولُ كَانَ بَيْنَنَا أَمْرٌ ارْتَفَعَ لَهُ دُخَانٌ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اشْتَدَّ خَوْفُهُ أَوْ ضَعْفُهُ أَظْلَمَتْ عَيْنَاهُ فَيَرَى الدُّنْيَا كَالْمَمْلُوءَةِ مِنَ الدُّخَانِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الدُّخَانِ أَنَّهُ
دُخَانٌ يَظْهَرُ فِي الْعَالَمِ وَهُوَ إِحْدَى عَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ، قَالُوا فَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ حَصَلَ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ مِنْهُ حَالَةٌ تُشْبِهُ الزُّكَامَ، وَحَصَلَ لِأَهْلِ الْكُفْرِ حَالَةٌ يَصِيرُ لِأَجْلِهَا رَأْسُهُ كَرَأْسِ الْحَنِيذِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَهُوَ قَوْلٌ مَشْهُورٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ يَقْتَضِي وُجُودَ دُخَانٍ تَأْتِي بِهِ السَّمَاءُ وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الظُّلْمَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْعَيْنِ بِسَبَبِ شِدَّةِ الْجُوعِ فَذَاكَ لَيْسَ بِدُخَانٍ أَتَتْ بِهِ السَّمَاءُ فَكَانَ حَمْلُ لَفْظِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عُدُولًا عَنِ الظَّاهِرِ لَا لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَصَفَ ذَلِكَ الدُّخَانَ بِكَوْنِهِ مُبِينًا، وَالْحَالَةُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا عَارِضَةٌ تَعْرِضُ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي أدمغتهم، ومثل هذا لا يوصف بكونها دُخَانًا مُبِينًا وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ وَصَفَ ذَلِكَ الدُّخَانَ بِأَنَّهُ يَغْشَى النَّاسَ، وَهَذَا إِنَّمَا يَصْدُقُ إِذَا وَصَلَ ذَلِكَ الدُّخَانُ إِلَيْهِمْ وَاتَّصَلَ بِهِمْ وَالْحَالُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا لَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا تَغْشَى النَّاسَ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعُدُولَ مِنَ الْحَقِيقَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute