أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيها يُفْرَقُ أَيْ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ يُفْرَقُ أَيْ يُفَصَّلُ وَيُبَيَّنُ من قوله فرقت الشيء أفرقه وَفُرْقَانًا، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَقُرِئَ يُفَرِّقُ بِالتَّشْدِيدِ وَيَفْرُقُ عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْفَاعِلِ وَنَصْبِ كُلٍّ وَالْفَارِقُ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ نُفَرِّقُ بِالنُّونِ.
أَمَّا قَوْلُهُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ فَالْحَكِيمُ مَعْنَاهُ ذُو الْحِكْمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَخْصِيصَ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّ أَحَدٍ بِحَالَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الْعُمُرِ وَالرِّزْقِ وَالْأَجْلِ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ يَدُلُّ عَلَى حِكْمَةٍ بَالِغَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْأَفْعَالُ وَالْأَقْضِيَةُ دَالَّةً عَلَى حِكْمَةِ فَاعِلِهَا وُصِفَتْ بِكَوْنِهَا حَكِيمَةً، وَهَذَا مِنَ الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ، لِأَنَّ الْحَكِيمَ صِفَةُ صَاحِبِ الْأَمْرِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَوَصْفُ الْأَمْرِ بِهِ مَجَازٌ، ثُمَّ قَالَ: أَمْراً مِنْ عِنْدِنا وَفِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ أَمْراً وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ شَرَفَ تِلْكَ الْأَقْضِيَةِ وَالْأَحْكَامِ بِسَبَبِ أَنْ وَصَفَهَا بِكَوْنِهَا حَكِيمَةً، ثُمَّ زَادَ فِي بَيَانِ شَرَفِهَا بِأَنْ قَالَ أَعْنِي بِهَذَا الْأَمْرِ أَمْرًا حَاصِلًا مِنْ عِنْدِنَا كَائِنًا مِنْ لَدُنَّا، وَكَمَا اقْتَضَاهُ عِلْمُنَا وَتَدْبِيرُنَا وَالثَّانِي: أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الأول: أن يكون حال مِنْ أَحَدِ الضَّمِيرَيْنِ فِي أَنْزَلْناهُ، إِمَّا مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ أَيْ: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ آمِرِينَ أَمْرًا أَوْ مِنْ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ أَيْ: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا بِمَا يَجِبُ أَنْ يَفْعَلَ وَالثَّالِثُ: مَا حَكَاهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ حَمَلَ قَوْلَهُ أَمْراً عَلَى الْحَالِ وَذُو الحال قوله كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ وهو نكرا.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ يَعْنِي إِنَّا إِنَّمَا فَعَلْنَا ذَلِكَ الْإِنْذَارَ لِأَجَلِ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ.
ثُمَّ قَالَ: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أَيْ لِلرَّحْمَةِ فَهِيَ نَصْبٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يَعْنِي أَنَّ تِلْكَ الرَّحْمَةَ كَانَتْ رَحْمَةً فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْمُحْتَاجِينَ، إِمَّا أَنْ يَذْكُرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ حَاجَاتِهِمْ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَذْكُرُوهَا فَإِنْ ذَكَرُوهَا فَهُوَ تَعَالَى يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ فَيَعْرِفُ حَاجَاتِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوهَا فَهُوَ تَعَالَى عَالِمٌ بِهَا فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ سَمِيعًا عَلِيمًا يَقْتَضِي أَنْ يُنْزِلَ رَحْمَتَهُ عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ قَالَ: رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْبَاءِ مِنْ رَبٍّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُنَزِّلَ إِذَا كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الْجَلَالَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ كَانَ الْمُنْزَّلُ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ فِي غَايَةِ الشَّرَفِ وَالرِّفْعَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ مَعْنَاهُ إِنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَ الْيَقِينَ وَتُرِيدُونَهُ، فَاعْرِفُوا أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قُلْنَا، كَقَوْلِهِمْ فُلَانٌ مُنْجِدٌ مُتْهِمٌ أَيْ يُرِيدُ نَجْدًا وَتِهَامَةَ الثَّانِي: قَالَ صاحب «الكشاف» : كانوا يقرون بأن للسموات وَالْأَرْضِ رَبًّا وَخَالِقًا فَقِيلَ لَهُمْ إِنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ وَإِنْزَالَ الْكُتُبِ رَحْمَةٌ مِنَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ قِيلَ إِنَّ هَذَا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ الَّذِي أَنْتُمْ مُقِرُّونَ بِهِ وَمُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ ربّ السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كَانَ إِقْرَارُكُمْ عَنْ عِلْمٍ وَيَقِينٍ، كَمَا تَقُولُ هَذَا إِنْعَامُ زَيْدٍ الَّذِي تَسَامَعَ النَّاسُ بِكَرَمِهِ إِنْ بَلَغَكَ حَدِيثُهُ وَسَمِعْتَ قِصَّتَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى رَدَّ أَنْ يَكُونُوا مُوقِنِينَ بِقَوْلِهِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ وَأَنَّ إِقْرَارَهُمْ غَيْرُ صَادِرٍ عَنْ عِلْمٍ وَيَقِينٍ وَلَا عَنْ جَدٍّ وَحَقِيقَةٍ بَلْ قَوْلٌ مخلوط بهزء ولعب والله أعلم.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute