للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ الْمَثْوَى: الْمَقَامُ وَالْمَقَرُّ وَالْمَصِيرُ ثُمَّ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ مَقَامٌ وَمَقَرٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَيَتَخَلَّصُ بِالْمَوْتِ عَنْ ذَلِكَ الْمَثْوَى فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذلك المقام والمثوى مخلد مؤيد وَهُوَ قَوْلُهُ:

خالِدِينَ فِيها.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ اسْتِثْنَاءُ أَوْقَاتِ الْمُحَاسَبَةِ لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ لَيْسُوا بِخَالِدِينَ فِي النَّارِ. الثَّانِي: الْمُرَادُ الْأَوْقَاتُ الَّتِي يُنْقَلُونَ فِيهَا مِنْ عَذَابِ النَّارِ إِلَى عَذَابِ الزَّمْهَرِيرِ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ وَادِيًا فِيهِ بَرْدٌ شَدِيدٌ فَهُمْ يَطْلُبُونَ الرَّدَّ مِنْ ذَلِكَ الْبَرْدِ إِلَى حَرِّ الْجَحِيمِ. الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى قَوْمًا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُمْ يُسْلِمُونَ وَيُصَدِّقُونَ النبي صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ «مَا» بِمَعْنَى «مَنْ» قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: خالِدِينَ فِيها مُنْذُ يُبْعَثُونَ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ مِنْ مِقْدَارِ حَشْرِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَمِقْدَارِ مُدَّتِهِمْ فِي مُحَاسَبَتِهِمْ. الرَّابِعُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ غَيْرُ رَاجِعٍ إِلَى الْخُلُودِ وَإِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَجَلِ الْمُؤَجَّلِ لَهُمْ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: وَبَلَغْنَا الْأَجَلَ الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا أَيِ الَّذِي سَمَّيْتَهُ لَنَا إِلَّا مَنْ أَهْلَكْتَهُ قَبْلَ الْأَجَلِ الْمُسَمَّى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ [الْأَنْعَامِ: ٦] وَكَمَا فَعَلَ فِي قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ مِمِنْ أَهْلَكَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَبْلَ الْأَجَلِ الَّذِي لَوْ آمَنُوا لَبَقُوا إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ فَتَلْخِيصُ الْكَلَامِ/ أَنْ يَقُولُوا:

اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا مَا سَمَّيْتَ لَنَا مِنَ الْأَجَلِ إِلَّا مَنْ شِئْتَ أَنْ تَخْتَرِمَهُ فَاخْتَرَمْتَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِكُفْرِهِ وَضَلَالِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا إِلَّا أَنَّهُ تَرْكٌ لِظَاهِرِ تَرْتِيبِ أَلْفَاظِ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَمَّا أَمْكَنَ إِجْرَاءُ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا فَلَا حاجة الى هذا التكليف.

ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ أَيْ فِيمَا يَفْعَلُهُ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ وَسَائِرِ وُجُوهِ الْمُجَازَاةِ وَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّمَا حَكَمْتُ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ بِعَذَابِ الْأَبَدِ لِعِلْمِي أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: قَوْلُهُ: النَّارُ مَثْواكُمْ الْمَثْوَى اسْمٌ لِلْمَصْدَرِ دُونَ الْمَكَانِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: خالِدِينَ فِيها حَالٌ وَاسْمُ الْمَوْضِعِ لَا يَعْمَلُ عَمَلَ الْفِعْلِ فَقَوْلُهُ: النَّارُ مَثْواكُمْ مَعْنَاهُ: النَّارُ أَهْلٌ أَنْ تُقِيمُوا فيها خالدين.

[[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢٩]]

وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩)

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ فَوَائِدُ:

الْفَائِدَةُ الاولى: اعلم انه تعالى لما حكيم عَنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَتَوَلَّى بَعْضًا بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِتَقْدِيرِهِ وَقَضَائِهِ فَقَالَ: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ أَنَّ الْقُدْرَةَ صَالِحَةٌ لِلطَّرَفَيْنِ أَعْنِي الْعَدَاوَةَ وَالصَّدَاقَةَ فَلَوْلَا حُصُولُ الدَّاعِيَةِ إِلَى الصَّدَاقَةِ لَمَا حَصَلَتِ الصَّدَاقَةُ وَتِلْكَ الدَّاعِيَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى قَطْعًا للتسلسل فهبت بِهَذَا الْبُرْهَانِ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا.

وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ تَصِيرُ هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلًا لَنَا فِي مَسْأَلَةِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>