للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ وَلَمْ يَقُلْ: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ فِي أَعْلَى مَقَامَاتِ الصَّالِحِينَ؟

قُلْنَا: لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [البقرة: ١٣٠] فقال هاهنا: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ دُعَاءَهُ ثُمَّ إِنَّ كَوْنَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ فِي أَعْلَى مَقَامَاتِ الصَّالِحِينَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ ذَلِكَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ [الْأَنْعَامِ: ٨٣] .

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَصَفَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْعَالِيَةِ الشَّرِيفَةِ قَالَ: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَفِيهِ مَبَاحِثُ:

البحث الْأَوَّلُ: قَالَ قَوْمٌ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلَى شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَيْسَ لَهُ شَرْعٌ هُوَ بِهِ مُنْفَرِدٌ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْ بَعْثَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِحْيَاءُ شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَوَّلَ فِي إِثْبَاتِ مَذْهَبِهِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهُ مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا قَالَ: اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ.

فَإِنْ قِيلَ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا نَفَى الشِّرْكَ وَأَثْبَتَ التَّوْحِيدَ بِنَاءً عَلَى الدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَابِعًا لَهُ فَيَمْتَنِعُ حَمْلُ قَوْلِهِ: أَنِ اتَّبِعْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الشَّرَائِعِ الَّتِي يَصِحُّ حُصُولُ الْمُتَابَعَةِ فِيهَا.

قُلْنَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْأَمْرَ بِمُتَابَعَتِهِ فِي كَيْفِيَّةِ الدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ وَهُوَ أَنْ يَدْعُوَ إِلَيْهِ بِطَرِيقِ الرِّفْقِ وَالسَّهُولَةِ وَإِيرَادِ الدَّلَائِلِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى بِأَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ عَلَى مَا هُوَ الطَّرِيقَةُ الْمَأْلُوفَةُ فِي الْقُرْآنِ.

البحث الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : لَفْظَةُ «ثُمَّ» فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ تَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ مَنْزِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْلَالِ مَحَلِّهِ وَالْإِيذَانِ بِأَنَّ أَشْرَفَ مَا أُوتِيَ خَلِيلُ اللَّهِ مِنَ الْكَرَامَةِ وَأَجَلَّ مَا أُوتِيَ مِنَ النِّعْمَةِ اتِّبَاعُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِلَّتَهُ من قبل، إن هَذِهِ اللَّفْظَةَ دَلَّتْ عَلَى تَبَاعُدِ هَذَا النَّعْتِ فِي الْمَرْتَبَةِ عَنْ سَائِرِ الْمَدَائِحِ الَّتِي مَدَحَهُ الله بها.

[[سورة النحل (١٦) : آية ١٢٤]]

إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمُتَابَعَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ اخْتَارَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَهَذِهِ الْمُتَابَعَةُ إِنَّمَا تَحْصُلُ إِذَا قُلْنَا إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدِ اخْتَارَ فِي شَرْعِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَعِنْدَ هذا المسائل أَنْ يَقُولَ: فَلِمَ اخْتَارَ الْيَهُودُ يَوْمَ السَّبْتِ؟

فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ:

رَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: أَمَرَهُمْ مُوسَى بِالْجُمُعَةِ وَقَالَ: تَفَرَّغُوا لِلَّهِ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا وَاحِدًا وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ لَا تَعْمَلُوا فِيهِ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ، وَقَالُوا: لَا نُرِيدُ إِلَّا الْيَوْمَ الَّذِي فَرَغَ فِيهِ مِنَ الْخَلْقِ وَهُوَ يَوْمُ السَّبْتِ، فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى السَّبْتَ لَهُمْ وَشَدَّدَ

<<  <  ج: ص:  >  >>