لِأَنَّ قُوَّةَ الْإِدْرَاكِ شَرْطُ الْوُثُوقِ بِقَوْلِ الْقَائِلِ لِأَنَّا إِنْ ظَنَنَّا بِوَاحِدٍ فَسَادَ ذِهْنٍ ثُمَّ نَقَلَ إِلَيْنَا عَنْ بَعْضِ الْأَكَابِرِ مَسْأَلَةً مُشْكِلَةً لَا نَثِقُ بِقَوْلِهِ وَنَقُولُ هُوَ مَا فَهِمَ مَا قَالَ، وَكَذَلِكَ قُوَّةُ الْحِفْظِ حَتَّى لَا نَقُولَ أَدْرَكَهَا لَكِنْ نَسِيَهَا وَكَذَلِكَ قُوَّةُ الْأَمَانَةِ حَتَّى لَا نَقُولَ حَرَّفَهَا وَغَيَّرَهَا فَقَالَ: شَدِيدُ الْقُوى لِيَجْمَعَ هَذِهِ الشَّرَائِطَ فَيَصِيرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ إلى أن قال: أَمِينٍ [التكوير: ٢٠، ٢١] الرَّابِعَةُ: فِي تَسْلِيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ مُخْتَصًّا بِمَكَانٍ فَنِسْبَتُهُ إِلَى جِبْرِيلَ كَنِسْبَتِهِ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا عُلِّمَ بِوَاسِطَتِهِ يَكُونُ نَقْصًا عَنْ دَرَجَتِهِ فَقَالَ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ شَدِيدُ الْقُوَى يَثْبُتُ لِمُكَالَمَتِنَا وَأَنْتَ/ بَعْدَ مَا اسْتَوَيْتَ فَتَكُونُ كَمُوسَى حَيْثُ خَرَّ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ عَلَّمَهُ بِوَاسِطَةٍ ثُمَّ عَلَّمَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
[النِّسَاءِ: ١١٣]
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَدَّبَنِي رَبِّي فأحسن تأديبي» .
ثم قال تعالى:
[[سورة النجم (٥٣) : آية ٦]]
ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦)
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذُو مِرَّةٍ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: ذُو قُوَّةٍ ثَانِيهَا: ذُو كَمَالٍ فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ جَمِيعًا ثَالِثُهَا: ذُو مَنْظَرٍ وَهَيْبَةٍ عَظِيمَةٍ رَابِعُهَا: ذُو خُلُقٍ حَسَنٍ فَإِنْ قِيلَ عَلَى قَوْلِنَا الْمُرَادُ ذُو قُوَّةٍ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ كَوْنِهِ ذَا قُوَى فِي قوله شَدِيدُ الْقُوى [النجم: ٥] فَكَيْفَ نَقُولُ قُوَاهُ شَدِيدَةٌ وَلَهُ قُوَّةٌ؟ نَقُولُ ذَلِكَ لَا يَحْسُنُ إِنْ جَاءَ وَصْفًا بَعْدَ وَصْفٍ، وَأَمَّا إِنْ جَاءَ بَدَلًا لَا يَجُوزُ كَأَنَّهُ قَالَ: عَلَّمَهُ ذُو قُوَّةٍ وَتَرَكَ شَدِيدَ الْقُوَى فَلَيْسَ وَصْفًا لَهُ وَتَقْدِيرُهُ: ذُو قُوَّةٍ عَظِيمَةٍ أَوْ كَامِلَةٍ وَهُوَ حِينَئِذٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التَّكْوِيرِ: ١٩، ٢٠] فَكَأَنَّهُ قَالَ: عَلَّمَهُ ذُو قُوَّةٍ فَاسْتَوَى، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ فِي الْجَوَابِ هُوَ أَنَّ إِفْرَادَ قُوَّةٍ بِالذِّكْرِ رُبَّمَا يَكُونُ لِبَيَانِ أَنَّ قُوَاهُ الْمَشْهُورَةَ شَدِيدَةٌ وَلَهُ قُوَّةٌ أُخْرَى خَصَّهُ اللَّهُ بِهَا، يُقَالُ: فُلَانٌ كَثِيرُ الْمَالِ، وَلَهُ مَالٌ لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ أَيْ أَمْوَالُهُ الظَّاهِرَةُ كَثِيرَةٌ وَلَهُ مَالٌ بَاطِنٌ، عَلَى أَنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ ذُو شِدَّةٍ وَتَقْدِيرُهُ: عَلَّمَهُ مَنْ قُوَاهُ شَدِيدَةٌ وَفِي ذَاتِهِ أَيْضًا شِدَّةٌ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا تَكُونُ قُوَاهُ شَدِيدَةً وَفِي جِسْمِهِ صِغَرٌ وَحَقَارَةٌ وَرَخَاوَةٌ، وَفِيهِ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بِقَوْلِهِ شَدِيدُ الْقُوى قُوَّتَهُ فِي الْعِلْمِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذُو مِرَّةٍ أَيْ شِدَّةٍ فِي جِسْمِهِ فَقَدَّمَ الْعِلْمِيَّةَ عَلَى الْجِسْمِيَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [الْبَقَرَةِ: ٢٤٧] وَفِي قَوْلِهِ فَاسْتَوى وَجْهَانِ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ جِبْرِيلُ أَيْ فَاسْتَوَى جِبْرِيلُ في خلقه. ثم قال تعالى:
[[سورة النجم (٥٣) : آية ٧]]
وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧)
وَالْمَشْهُورُ أَنَّ هُوَ ضَمِيرُ جِبْرِيلَ وَتَقْدِيرُهُ اسْتَوَى كَمَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْأُفُقِ الشَّرْقِيِّ، فَسَدَّ الْمَشْرِقَ لِعَظَمَتِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَاهُ اسْتَوَى بِمَكَانٍ وَهُوَ بِالْمَكَانِ الْعَالِي رُتْبَةً وَمَنْزِلَةً فِي رِفْعَةِ الْقَدْرِ لَا حَقِيقَةً فِي الْحُصُولِ فِي الْمَكَانِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ هَذَا وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التَّكْوِيرِ: ٢٣] إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ؟ نَقُولُ وَفِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَيْضًا نَقُولُ كَمَا قُلْنَا هَاهُنَا إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى جِبْرِيلَ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ يَقُولُ الْقَائِلُ رَأَيْتُ الْهِلَالَ فَيُقَالُ لَهُ أَيْنَ رَأَيْتَهُ فَيَقُولُ فَوْقَ السَّطْحِ أَيْ أَنَّ الرَّائِيَ فَوْقَ السطح لا المرئي والْمُبِينِ هُوَ الْفَارِقُ مِنْ أَبَانَ أَيْ فَرَّقَ، أَيْ هُوَ بِالْأُفُقِ الْفَارِقِ بَيْنَ دَرَجَةِ الْإِنْسَانِ وَمَنْزِلَةِ الْمَلَكِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى وَبَلَغَ الْغَايَةَ وَصَارَ نَبِيًّا كَمَا صَارَ بَعْضُ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيًّا يَأْتِيهِ الْوَحْيُ فِي نَوْمِهِ وَعَلَى هَيْئَتِهِ وَهُوَ وَاصِلٌ إِلَى الْأُفُقِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute