وَالْجَوَابُ: لَعَلَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُ بِذَلِكَ تَشْدِيدًا لِلْمِحْنَةِ عَلَى يَعْقُوبَ وَنَهَاهُ عَنِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَأَخْذِ الْبَدَلِ كَمَا أَمَرَ تَعَالَى صَاحِبَ مُوسَى بِقَتْلِ من لو بقي لطغى وكفر.
[[سورة يوسف (١٢) : آية ٨٠]]
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ [يُوسُفَ: ٧٨] وَهُوَ نِهَايَةُ مَا يُمْكِنُهُمْ بَذْلُهُ فَقَالَ يُوسُفُ فِي جَوَابِهِ: مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ [يوسف: ٧٩] فَانْقَطَعَ طَمَعُهُمْ مِنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي رَدِّهِ، فَعِنْدَ هَذَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي يَأْسِهِمْ من رده وخَلَصُوا نَجِيًّا أَيْ تَفَرَّدُوا عَنْ سَائِرِ النَّاسِ يَتَنَاجَوْنَ وَلَا شُبْهَةَ أَنَّ الْمُرَادَ يَتَشَاوَرُونَ وَيَتَحَيَّلُونَ الرَّأْيَ فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا أَخَذُوا بِنْيَامِينَ مِنْ أَبِيهِمْ بَعْدَ الْمَوَاثِيقِ الْمُؤَكَّدَةِ وَبَعْدَ أَنْ كَانُوا مُتَّهَمِينَ فِي حَقِّ يُوسُفَ فَلَوْ لَمْ يُعِيدُوهُ إِلَى أَبِيهِمْ لَحَصَلَتْ مِحَنٌ كَثِيرَةٌ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعُودُوا إِلَى أَبِيهِمْ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا فَبَقَاؤُهُ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَحَدٍ مِنْ أَوْلَادِهِ مِحْنَةٌ عَظِيمَةٌ. وَثَانِيهَا: أَنَّ أَهْلَ بَيْتِهِمْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى الطَّعَامِ أَشَدَّ الْحَاجَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رُبَّمَا كَانَ يَظُنُّ أَنَّ أَوْلَادَهُ هَلَكُوا بِالْكُلِّيَّةِ وَذَلِكَ غَمٌّ شَدِيدٌ وَلَوْ عَادُوا إِلَى أَبِيهِمْ بِدُونِ بِنْيَامِينَ لَعَظُمَ حَيَاؤُهُمْ فَإِنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ يُوهِمُ أَنَّهُمْ خَانُوهُ فِي هَذَا الِابْنِ كَمَا أَنَّهُمْ خَانُوهُ فِي الِابْنِ الْأَوَّلِ، وَلَكَانَ يُوهِمُ أَيْضًا أَنَّهُمْ مَا أَقَامُوا لِتِلْكَ الْمَوَاثِيقِ الْمُؤَكَّدَةِ وَزْنًا وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ فِكْرَةٍ وَحَيْرَةٍ، وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّفَاوُضَ وَالتَّشَاوُرَ طَلَبًا لِلْأَصْلَحِ الْأَصْوَبِ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ روي عن ابن كثير استيأسوا حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ [يوسف: ١١٠] بِغَيْرِ هَمْزٍ وَفِي يَيْئَسُ لُغَتَانِ يَئِسَ وَيَيْأَسُ مثل حسب ويحسب ومن قال استيأس قَلَبَ الْعَيْنَ إِلَى مَوْضِعِ الْفَاءِ فَصَارَ اسْتَعْفَلَ وَأَصْلُهُ اسْتَيْأَسَ ثُمَّ خُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : اسْتَيْأَسُوا يَئِسُوا، وَزِيَادَةُ السِّينِ وَالتَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ كما في قوله: فَاسْتَعْصَمَ [يوسف: ٣٢] وَقَوْلُهُ: خَلَصُوا قَالَ الْوَاحِدِيُّ: يُقَالُ خَلَصَ الشَّيْءُ يَخْلُصُ خُلُوصًا إِذَا ذَهَبَ عَنْهُ الشَّائِبُ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ خَلَصُوا أَيِ انْفَرَدُوا، وَلَيْسَ مَعَهُمْ أَخُوهُمْ، وَالثَّانِي: قَالَ الْبَاقُونَ تَمَيَّزُوا عَنِ الْأَجَانِبِ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: نَجِيًّا فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : النجي على معنيين يكون بمعنى المناجي كَالْعَشِيرِ وَالسَّمِيرِ بِمَعْنَى الْمُعَاشِرِ وَالْمُسَامِرِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا [مَرْيَمَ: ٥٢] وَبِمَعْنَى الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ التَّنَاجِي كَمَا قِيلَ: النَّجْوَى بِمَعْنَى الْمُتَنَاجِينَ، فَعَلَى هَذَا مَعْنَى خَلَصُوا نَجِيًّا اعْتَزَلُوا وَانْفَرَدُوا عَنِ النَّاسِ خَالِصِينَ لَا يُخَالِطُهُمْ سِوَاهُمْ نَجِيًّا أَيْ مُنَاجِيًا.
رُوِيَ نَجْوَى أَيْ فَوْجًا نَجِيًّا أَيْ مُنَاجِيًا لِمُنَاجَاةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَأَحْسَنُ الْوُجُوهِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ تَمَحَّضُوا تَنَاجِيًا، لِأَنَّ مَنْ كَمُلَ حُصُولُ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ فِيهِ وُصِفَ بِأَنَّهُ صَارَ غَيْرَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَلَمَّا أَخَذُوا فِي التَّنَاجِي عَلَى غَايَةِ الْجِدِّ صَارُوا كَأَنَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، صَارُوا نَفْسَ التَّنَاجِي حَقِيقَةً.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ كَبِيرُهُمْ فَقِيلَ الْمُرَادُ كَبِيرُهُمْ فِي السِّنِّ وَهُوَ رُوبِيلُ، وَقِيلَ كَبِيرُهُمْ فِي العقل/ وهو
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute