لَا يَتَأَلَّمُ بِالْمَوْتِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّوَفِّيَ هُوَ قَبْضُ الْأَرْوَاحِ، وَإِنْ كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: إِنَّهُ وَفَاةُ الْحَشْرِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ عِنْدَ هَذِهِ الْحَالَةِ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَاحْتَجَّ الْحَسَنُ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ التَّوَفِّي وَفَاةُ الْحَشْرِ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ عِنْدَ قَبْضِ الْأَرْوَاحِ فِي الدُّنْيَا ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا بَشَّرُوهُمْ بِالْجَنَّةِ صَارَتِ الْجَنَّةُ كَأَنَّهَا دَارُهُمْ وَكَأَنَّهُمْ فِيهَا فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمُ، ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أي هي خاصة لكم كأنكم فيها.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤)
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ لِمُنْكِرِي النُّبُوَّةِ، فَإِنَّهُمْ طَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ يُنْزِلَ اللَّهُ تَعَالَى مَلَكًا مِنَ السَّمَاءِ يَشْهَدُ عَلَى صِدْقِهِ فِي ادِّعَاءِ النبوة فقال تعالى: لْ يَنْظُرُونَ
فِي التَّصْدِيقِ بِنُبُوَّتِكَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ شَاهِدِينَ بِذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا طَعَنُوا فِي الْقُرْآنِ بِأَنْ قَالُوا: إِنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْوَاعَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ لَهُمْ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الْوَعْدِ لِمَنْ وَصَفَ الْقُرْآنَ بِكَوْنِهِ خَيْرًا وَصِدْقًا وَصَوَابًا، عَادَ إِلَى بَيَانِ أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ لَا يَنْزَجِرُونَ عَنِ الْكُفْرِ بِسَبَبِ الْبَيَانَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، بَلْ كَانُوا لَا يَنْزَجِرُونَ عَنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ إِلَّا إِذَا جَاءَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ بِالتَّهْدِيدِ وَأَتَاهُمْ أَمْرُ رَبِّكَ وَهُوَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ على كلا التقديرين فقد قال تعالى: ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
أَيْ كَلَامُ هَؤُلَاءِ وَأَفْعَالُهُمْ يُشْبِهُ كَلَامَ الْكُفَّارِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَفْعَالَهُمْ.
ثم قال: ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
وَالتَّقْدِيرُ: كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَصَابَهُمُ الْهَلَاكُ الْمُعَجَّلُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ أَنْزَلَ بِهِمْ مَا اسْتَحَقُّوهُ بِكُفْرِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَنْ كَفَرُوا، وَكَذَّبُوا الرَّسُولَ فَاسْتَوْجَبُوا مَا نَزَلْ بِهِمْ.
ثم قال: فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَالْمُرَادُ أَصَابَهُمْ عِقَابُ سَيِّئَاتِ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ أَيْ نَزَلَ بِهِمْ عَلَى وَجْهٍ أَحَاطَ بجوانبهم: ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي عقاب استهزائهم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٥ الى ٣٧]
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧)
[في قوله تعالى وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إلى قوله حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الشُّبْهَةُ الثَّالِثَةُ لِمُنْكِرِي النُّبُوَّةِ، وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِصِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْجَبْرِ عَلَى الطَّعْنِ فِي النُّبُوَّةِ فَقَالُوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ الْإِيمَانَ لَحَصَلَ الْإِيمَانُ، سَوَاءٌ جِئْتَ أَوْ لم تجيء، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ الْكُفْرَ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ