وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: فِي هذِهِ الدُّنْيا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: حَسَنَةٌ وَالتَّقْدِيرُ: لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا أَنْ تَحْصُلَ لَهُمُ الْحَسَنَةُ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ: وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْحَسَنَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الدُّنْيَا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ وَالثَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ جَزَاءٌ عَلَى مَا عَمِلُوهُ. وَالثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الظَّفَرُ عَلَى أَعْدَاءِ الدَّيْنِ بِالْحُجَّةِ وَبِالْغَلَبَةِ لَهُمْ، وَبِاسْتِغْنَامِ أَمْوَالِهِمْ وَفَتْحِ بِلَادِهِمْ، كَمَا جَرَى بِبَدْرٍ وَعِنْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَقَدْ أَجْلَوْهُمْ عَنْهَا وَأَخْرَجُوهُمْ إِلَى الْهِجْرَةِ، وَإِخْلَاءِ الْوَطَنِ، وَمُفَارَقَةِ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَعْظُمُ مُوقِعُهُ. وَالثَّالِثُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَمَّا أَحْسَنُوا بِمَعْنَى أَنَّهُمْ أَتَوْا بِالطَّاعَاتِ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ وَالْأَلْطَافِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [مُحَمَّدٍ: ١٧] .
وَأما قوله: وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ فَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي قَوْلِهِ: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الْأَنْعَامِ: ٣٢] بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ حُصُولَ هَذَا الْخَيْرِ، ثم قال: وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ أَيْ لَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ دَارُ الْآخِرَةِ، فَحُذِفَتْ لِسَبْقِ ذِكْرِهَا، هَذَا إِذَا لَمْ تُجْعَلُ هَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةً بِمَا بَعْدَهَا، فَإِنْ وَصَلْتَهَا بِمَا بَعْدَهَا قُلْتَ:
وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ فَتَرْفَعُ جَنَّاتٍ عَلَى أَنَّهَا اسْمٌ لِنِعْمَ، كَمَا تَقُولُ: نِعْمَ الدَّارُ دَارٌ يَنْزِلُهَا زَيْدٌ. وَأما قوله: جَنَّاتُ عَدْنٍ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مَوْصُولَةً بِمَا قَبْلَهَا، فَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ ارْتِفَاعِهَا، وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ مَقْطُوعَةً، فَقَالَ الزَّجَّاجُ: جَنَّاتُ عَدْنٍ مَرْفُوعَةٌ بِإِضْمَارِ «هِيَ» كَأَنَّكَ لَمَّا قُلْتَ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ/ قِيلَ: أَيُّ دَارٍ هِيَ هَذِهِ الْمَمْدُوحَةُ فَقُلْتَ: هِيَ جَنَّاتُ عَدْنٍ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: جَنَّاتُ عَدْنٍ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ، ويدخلونها خَبَرُهُ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: نِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ خَبَرُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: جَنَّاتُ عَدْنٍ نِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: جَنَّاتُ يَدُلُّ عَلَى الْقُصُورِ وَالْبَسَاتِينِ وَقَوْلُهُ: عَدْنٍ يَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ، وَقَوْلُهُ:
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ هُنَاكَ أَبْنِيَةٌ يَرْتَفِعُونَ عَلَيْهَا وَتَكُونُ الْأَنْهَارُ جَارِيَةً مِنْ تَحْتِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تَدُلُّ عَلَى حُصُولِ كُلِّ الْخَيْرَاتِ وَالسَّعَادَاتِ، وَهَذَا أَبْلَغُ من قوله: فِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزُّخْرُفِ: ٧١] لِأَنَّ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ دَاخِلَانِ فِي قَوْلِهِ: لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ مَعَ أَقْسَامٍ أُخْرَى. الثَّانِي: قَوْلُهُ: لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ يَعْنِي هَذِهِ الْحَالَةُ لَا تَحْصُلُ إِلَّا فِي الجنة، لأن قوله: لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجِدُ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ فِي الدُّنْيَا.
ثم قال تَعَالَى: كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ [إلى آخره الآية] أَيْ هَكَذَا جَزَاءُ التَّقْوَى، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَادَ إِلَى وَصْفِ الْمُتَّقِينَ فَقَالَ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النَّحْلِ: ٢٨] وَقَوْلِهِ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ صِفَةٌ لِلْمُتَّقِينَ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ وَقَوْلُهُ: طَيِّبِينَ كَلِمَةٌ مُخْتَصَرَةٌ جَامِعَةٌ لِلْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ إِتْيَانُهُمْ بِكُلِّ مَا أُمِرُوا بِهِ، وَاجْتِنَابُهُمْ عَنْ كُلِّ مَا نُهُوا عَنْهُ وَيَدْخُلُ فِيهِ كَوْنُهُمْ مَوْصُوفِينَ بِالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ مُبَرَّئِينَ عَنِ الْأَخْلَاقِ الْمَذْمُومَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ كَوْنُهُمْ مُبَرَّئِينَ عَنِ الْعَلَائِقِ الْجُسْمَانِيَّةِ مُتَوَجِّهِينَ إِلَى حَضْرَةِ الْقُدْسِ وَالطَّهَارَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَنَّهُ طَابَ لَهُمْ قَبْضُ الْأَرْوَاحِ وَأَنَّهَا لَمْ تُقْبَضْ إِلَّا مَعَ الْبِشَارَةِ بِالْجَنَّةِ حَتَّى صَارُوا كَأَنَّهُمْ مُشَاهِدُونَ لَهَا وَمَنْ هَذَا حاله
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute