وَالتَّضَرُّعِ عَلَى مَا قَالَ: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٧] الْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْفَلَقِ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا يَفْلِقُهُ اللَّهُ كَالْأَرْضِ عَنِ النَّبَاتِ: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى [الْأَنْعَامِ: ٩٥] والجبال عن العيون: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ [البقرة: ٧٤] وَالسَّحَابِ عَنِ الْأَمْطَارِ وَالْأَرْحَامِ عَنِ الْأَوْلَادِ وَالْبَيْضِ عَنِ الْفَرْخِ وَالْقُلُوبِ عَنِ الْمَعَارِفِ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ الْخَلْقَ تَبَيَّنَ لَكَ أَنَّ أَكْثَرَهُ عَنِ انْقِلَابٍ، بَلِ الْعَدَمُ كَأَنَّهُ ظُلْمَةٌ وَالنُّورُ كَأَنَّهُ الْوُجُودُ، وَثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ اللَّهُ فِي الْأَزَلِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ الْبَتَّةَ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي فَلَقَ بِحَارَ ظُلُمَاتِ الْعَدَمِ بِأَنْوَارِ الْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ وَالْإِبْدَاعِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْفَلَقِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَقْرَبُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: هُوَ أَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا الْخَالِقُ وَإِمَّا الْخَلْقُ، فَإِذَا فَسَّرْنَا الْفَلَقَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، وَمُكَوِّنِ كُلِّ الْمُحْدَثَاتِ وَالْمُبْدَعَاتِ فَيَكُونُ التَّعْظِيمُ فِيهِ أَعْظَمَ، وَيَكُونُ الصُّبْحُ أَحَدَ الْأُمُورِ الدَّاخِلَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَثَانِيهَا: أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ إِمَّا وَاجِبٌ لِذَاتِهِ أَوْ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ يَكُونُ مَوْجُودًا بِغَيْرِهِ، مَعْدُومًا فِي حَدِّ ذَاتِهِ، فَإِذَنْ كُلُّ مُمْكِنٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُؤَثِّرٍ يُؤَثِّرُ فِيهِ حَالَ حُدُوثِهِ وَيُبْقِيهِ حَالَ بَقَائِهِ، فَإِنَّ الْمُمْكِنَ حَالَ بَقَائِهِ يَفْتَقِرُ إِلَى الْمُؤَثِّرِ وَالتَّرْبِيَةُ، إِشَارَةٌ لَا إِلَى حَالِ الْحُدُوثِ بَلْ إِلَى حَالِ الْبَقَاءِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّكَ لَسْتَ مُحْتَاجًا إِلَى حَالِ/ الْحُدُوثِ فَقَطْ بَلْ فِي حَالِ الْحُدُوثِ وَحَالِ الْبَقَاءِ مَعًا فِي الذَّاتِ وَفِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ، فَقَوْلُهُ: بِرَبِّ الْفَلَقِ يَدُلُّ عَلَى احْتِيَاجِ كُلِّ مَا عَدَاهُ إِلَيْهِ حَالَتَيِ الْحُدُوثِ وَالْبَقَاءِ فِي الْمَاهِيَّةِ وَالْوُجُودِ بِحَسَبِ الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ وَسِرُّ التَّوْحِيدِ لَا يَصْفُو عَنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ إِلَّا عِنْدَ مُشَاهَدَةِ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَثَالِثُهَا: أَنَّ التَّصْوِيرَ وَالتَّكْوِينَ فِي الظُّلْمَةِ أَصْعَبُ مِنْهُ فِي النُّورِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: أَنَا الَّذِي أَفْعَلُ مَا أَفْعَلُهُ قَبْلَ طُلُوعِ الْأَنْوَارِ وَظُهُورِ الْأَضْوَاءِ وَمِثْلُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِالْعِلْمِ التَّامِّ وَالْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آلِ عِمْرَانَ: ٦] .
الْقَوْلُ الثالث: أنه واد في جهنم أوجب فِيهَا مِنْ قَوْلِهِمْ لِمَا اطْمَأَنَّ مِنَ الْأَرْضِ الْفَلَقُ وَالْجَمْعُ فُلْقَانٌ، وَعَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَدِمَ الشَّامَ فَرَأَى دُورَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنْ خِصْبِ الْعَيْشِ فَقَالَ لَا أُبَالِي، أَلَيْسَ مِنْ وَرَائِهِمُ الْفَلَقُ، فَقِيلَ: وَمَا الْفَلَقُ؟ قَالَ: بَيْتٌ فِي جَهَنَّمَ إِذَا فُتِحَ صَاحَ جَمِيعُ أَهْلِ النَّارِ مِنْ شِدَّةِ حَرِّهِ، وإنما خصه بالذكر هاهنا لِأَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى مِثْلِ هَذَا التَّعْذِيبِ الْعَظِيمِ الْخَارِجِ عَنْ حَدِّ أَوْهَامِ الْخَلْقِ، ثُمَّ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَحْمَتَهُ أَعْظَمُ وَأَكْمَلُ وَأَتَمُّ مِنْ عَذَابِهِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: يَا صَاحِبَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ أَعُوذُ بِرَحْمَتِكَ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ وَأَكْمَلُ وأتم وأسبق وأقدم من عذابك.
[[سورة الفلق (١١٣) : آية ٢]]
مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (٢)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ إِبْلِيسَ خَاصَّةً لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ خَلْقًا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ وَلِأَنَّ السُّورَةَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنَ السِّحْرِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتِمُّ بِإِبْلِيسَ وَبِأَعْوَانِهِ وَجُنُودِهِ وَثَانِيهَا: يُرِيدُ جَهَنَّمَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ جَهَنَّمَ وَمِنْ شَدَائِدِ مَا خَلَقَ فِيهَا وَثَالِثُهَا: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ يُرِيدُ مِنْ شَرِّ أَصْنَافِ الْحَيَوَانَاتِ الْمُؤْذِيَاتِ كَالسِّبَاعِ وَالْهَوَامِّ وَغَيْرِهِمَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ مَنْ يُؤْذِينِي مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَيْضًا وَوَصَفَ أَفْعَالَهَا بِأَنَّهَا شَرٌّ، وَإِنَّمَا جَازَ إِدْخَالُ الْجِنِّ وَالْإِنْسَانِ تَحْتَ لَفْظَةِ (مَا) ، لِأَنَّ الْغَلَبَةَ لَمَّا حَصَلَتْ فِي جَانِبِ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ حَسُنَ اسْتِعْمَالُ لَفْظَةِ (مَا) فِيهِ، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْأَغْلَبِ أَيْضًا وَيَدْخُلُ فِيهِ شُرُورُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute