للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[الجزء الحادي عشر]

[تتمة سورة النساء]

بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم

[[سورة النساء (٤) : آية ٩٤]]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤)

قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا.

اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَحْرِيمِ قَتْلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمْرُ الْمُجَاهِدِينَ بِالتَّثَبُّتِ فِيهِ لِئَلَّا يَسْفِكُوا دَمًا حَرَامًا بِتَأْوِيلٍ ضَعِيفٍ، وَهَذِهِ الْمُبَالَغَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ خِطَابٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَفِيهِ مسائل:

[في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ هُنَا وَكَذَلِكَ فِي الْحُجُرَاتِ فَتَثَبَّتُوا مِنْ ثَبَتَ ثَبَاتًا، وَالْبَاقُونَ بِالنُّونِ مِنَ الْبَيَانِ، وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ، فَمَنْ رَجَّحَ التَّثْبِيتَ قَالَ: إِنَّهُ خِلَافُ الْإِقْدَامِ، وَالْمُرَادُ فِي الْآيَةِ التَّأَنِّي وَتَرْكُ الْعَجَلَةِ، وَمَنْ رَجَّحَ التَّبْيِينَ قَالَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّثْبِيتِ التَّبْيِينُ، فَكَانَ التَّبْيِينُ أَبْلَغَ وَأَكْمَلَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّرْبُ مَعْنَاهُ السَّيْرُ فِيهَا بِالسَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ أَوِ الْجِهَادِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الضَّرْبِ بِالْيَدِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِسْرَاعِ فِي السَّيْرِ فَإِنَّ مَنْ ضَرَبَ إِنْسَانًا كَانَتْ حَرَكَةُ يَدِهِ عِنْدَ ذَلِكَ الضَّرْبِ سَرِيعَةً، فَجُعِلَ الضَّرْبُ كِنَايَةً عَنِ الْإِسْرَاعِ فِي السَّيْرِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَعْنَى ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ غَزَوْتُمْ وَسِرْتُمْ إِلَى الْجِهَادِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلم لَسْتَ مُؤْمِنًا.

أَرَادَ الِانْقِيَادَ وَالِاسْتِسْلَامَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ [النَّحْلِ: ٨٧] أَيِ اسْتَسْلَمُوا لِلْأَمْرِ، وَمَنْ قَرَأَ السَّلامَ بِالْأَلِفِ فَلَهُ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ السَّلَامَ الَّذِي يَكُونُ هُوَ تَحِيَّةَ الْمُسْلِمِينَ، أَيْ لَا تَقُولُوا لِمَنْ حَيَّاكُمْ بِهَذِهِ التَّحِيَّةِ إِنَّهُ إِنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا فَتُقْدِمُوا عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ لِتَأْخُذُوا/ مَالَهُ وَلَكِنْ كُفُّوا وَاقْبَلُوا مِنْهُ مَا أَظْهَرَهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: لَا تَقُولُوا لِمَنِ اعْتَزَلَكُمْ وَلَمْ يُقَاتِلْكُمْ لَسْتَ مُؤْمِنًا، وَأَصْلُ هَذَا مِنَ السَّلَامَةِ لِأَنَّ الْمُعْتَزِلَ طَالِبٌ لِلسَّلَامَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: قُرِئَ مُؤْمَنًا بِفَتْحِ الْمِيمِ مِنْ آمَنَهُ أَيْ لَا نُؤَمِّنُكَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ رِوَايَاتٌ:

الرِّوَايَةُ الْأُولَى: أَنَّ

مِرْدَاسَ بْنَ نَهِيكٍ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ فَدَكَ أَسْلَمَ وَلَمْ يُسْلِمْ مِنْ قَوْمِهِ غَيْرُهُ، فَذَهَبَتْ سَرِيَّةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَوْمِهِ وَأَمِيرُهُمْ غَالِبُ بْنُ فَضَالَةَ، فَهَرَبَ الْقَوْمُ وَبَقِيَ مِرْدَاسٌ لِثِقَتِهِ بِإِسْلَامِهِ، فَلَمَّا رَأَى الْخَيْلَ أَلْجَأَ غَنَمَهُ إِلَى عَاقُولٍ مِنَ الْجَبَلِ، فَلَمَّا تَلَاحَقُوا وَكَبَّرُوا كَبَّرَ وَنَزَلَ، وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّه السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَتَلَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَسَاقَ غَنَمَهُ، فَأَخْبَرُوا رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجِدَ وَجْدًا شَدِيدًا وَقَالَ: قَتَلْتُمُوهُ إِرَادَةَ مَا

<<  <  ج: ص:  >  >>