للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْقَوْلُ الرَّابِعُ: إِنَّهُ حُجَّةُ اللَّهِ، عَنِ الْأَصَمِّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ سُنَّةُ اللَّهِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَالْقَوْلُ الْجَيِّدُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي نَصْبِ صِبْغَةَ أَقْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ مِلَّةَ وَتَفْسِيرٌ لَهَا. الثَّانِي: اتَّبِعُوا صِبْغَةَ اللَّهِ.

الثَّالِثُ: قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ فَيَنْتَصِبُ عَنْ قَوْلِهِ: آمَنَّا بِاللَّهِ كَمَا انْتَصَبَ وَعْدُ اللَّهِ عَمَّا تَقَدَّمَهُ.

أَمَّا قَوْلُهُ: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً فَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَصْبُغُ عِبَادَهُ بِالْإِيمَانِ وَيُطَهِّرُهُمْ بِهِ مِنْ أَوْسَاخِ الْكُفْرِ، فَلَا صِبْغَةَ أَحْسَنُ مِنْ صِبْغَتِهِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّهُ عَطْفٌ عَلَى: آمَنَّا بِاللَّهِ وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ صِبْغَةَ اللَّهِ بَدَلٌ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ أَوْ نُصِبَ عَلَى الْإِغْرَاءِ بِمَعْنَى عَلَيْكُمْ صِبْغَةَ اللَّهِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَكِّ النَّظْمِ وَانْتِصَابُهَا عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ، وَالْقَوْلُ مَا قالت حذام.

[[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٩]]

قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩)

اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ مَسَائِلَ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الْمُحَاجَّةِ وَذَكَرُوا وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَوْلَهُمْ إِنَّهُمْ أَوْلَى بِالْحَقِّ وَالنُّبُوَّةِ لِتَقَدُّمِ النُّبُوَّةِ فِيهِمْ وَالْمَعْنَى: أَتُجَادِلُونَنَا فِي أن الله اصطفى رسول مِنَ الْعَرَبِ لَا مِنْكُمْ وَتَقُولُونَ: لَوْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى أَحَدٍ لَأَنْزَلَ عَلَيْكُمْ، وَتَرَوْنَكُمْ أَحَقَّ بِالنُّبُوَّةِ مِنَّا. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُمْ: نَحْنُ أَحَقُّ بِالْإِيمَانِ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْأَوْثَانَ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُمْ نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَقَوْلُهُمْ: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [الْبَقَرَةِ: ١١١] وَقَوْلُهُمْ: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا [البقرة: ١٣٥] عَنِ الْحَسَنِ. وَرَابِعُهَا:

أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ أَيْ: أَتُحَاجُّونَنَا فِي دِينِ اللَّهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْمُحَاجَّةُ كَانَتْ مَعَ مَنْ؟ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْيَهُودِ/ وَالنَّصَارَى.

وَثَانِيهَا: أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ مُشْرِكِي الْعَرَبِ حَيْثُ قَالُوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزُّخْرُفِ: ٣١] وَالْعَرَبُ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالْخَالِقِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الْكُلِّ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَلْيَقُ بِنَظْمِ الْآيَةِ.

أَمَّا قَوْلُهُ: وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَعْلَمُ بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ وَبِمَنْ يَصْلُحُ لِلرِّسَالَةِ وَبِمَنْ لَا يَصْلُحُ لَهَا، فَلَا تَعْتَرِضُوا عَلَى رَبِّكُمْ، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْتَرِضَ عَلَى رَبِّهِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ بِالْكُلِّيَّةِ لَهُ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَا نِسْبَةَ لَكُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بِالْعُبُودِيَّةِ، وَهَذِهِ النِّسْبَةُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، فَلِمَ تُرَجِّحُونَ أَنْفُسَكُمْ عَلَيْنَا، بَلِ التَّرْجِيحُ مِنْ جَانِبِنَا لِأَنَّا مُخْلِصُونَ لَهُ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَلَسْتُمْ كَذَلِكَ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ وَهَذَا التأويل أقرب.

أما قوله تعالى: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ فَالْمُرَادُ مِنْهُ النَّصِيحَةُ فِي الدِّينِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ: قُلْ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ عَلَى وَجْهِ الشَّفَقَةِ وَالنَّصِيحَةِ، أَيْ لَا يَرْجِعُ إِلَيَّ مِنْ أَفْعَالِكُمُ الْقَبِيحَةِ ضَرَرٌ حَتَّى يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ دَفْعَ ذَلِكَ الضَّرَرِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نُصْحُكُمْ وَإِرْشَادُكُمْ إِلَى الْأَصْلَحِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْإِنْسَانُ إِنَّمَا يَكُونُ مَقْبُولَ الْقَوْلِ إِذَا كَانَ خَالِيًا عَنِ الْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ لَمْ يَنْجَعْ قَوْلُهُ فِي الْقَلْبِ الْبَتَّةَ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ