للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ أَصْنَافٍ عَلَى التَّفْصِيلِ وَهُمُ الْآبَاءُ وَالْأَبْنَاءُ وَالْإِخْوَانُ وَالْأَزْوَاجُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْبَقِيَّةَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَهِيَ لَفْظُ الْعَشِيرَةِ. وَثَانِيهَا: الْمَيْلُ إِلَى إِمْسَاكِ الْأَمْوَالِ الْمُكْتَسَبَةِ. وَثَالِثُهَا: الرَّغْبَةُ فِي تَحْصِيلِ الْأَمْوَالِ بِالتِّجَارَةِ. وَرَابِعُهَا: الرَّغْبَةُ فِي الْمَسَاكِنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ تَرْتِيبٌ حَسَنٌ، فَإِنَّ أَعْظَمَ الْأَسْبَابِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الْمُخَالَطَةِ الْقَرَابَةُ ثُمَّ إِنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِتِلْكَ الْمُخَالَطَةِ إِلَى إِبْقَاءِ الْأَمْوَالِ الْحَاصِلَةِ ثُمَّ إِنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِالْمُخَالَطَةِ إِلَى اكْتِسَابِ الْأَمْوَالِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ حَاصِلَةٍ، وَفِي آخِرِ الْمَرَاتِبِ الرَّغْبَةُ فِي الْبِنَاءِ فِي الْأَوْطَانِ وَالدُّورِ الَّتِي بُنِيَتْ لِأَجْلِ السُّكْنَى، فَذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ الْوَاجِبِ، وَبَيَّنَ بِالْآخِرَةِ أَنَّ رِعَايَةَ الدِّينِ خَيْرٌ مِنْ رعاية جملة هذه الأمور.

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ] وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِعْرَاضُ عَنْ مُخَالَطَةِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْإِخَوَانِ وَالْعَشَائِرِ وَعَنِ الْأَمْوَالِ وَالتِّجَارَاتِ وَالْمَسَاكِنِ، رِعَايَةً لِمَصَالِحِ الدِّينِ، وَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا يَشُقُّ جِدًّا عَلَى النُّفُوسِ وَالْقُلُوبِ، ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ الدُّنْيَا لِأَجْلِ الدِّينِ فَإِنَّهُ يُوصِلُهُ إِلَى مَطْلُوبِهِ مِنَ الدُّنْيَا أَيْضًا، وَضَرَبَ تَعَالَى لِهَذَا مَثَلًا، وَذَلِكَ أَنَّ عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي وَاقِعَةِ حُنَيْنٍ كَانُوا فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ وَالْقُوَّةِ، فَلَمَّا أُعْجِبُوا بِكَثْرَتِهِمْ صَارُوا مُنْهَزِمِينَ، ثُمَّ فِي حَالِ الِانْهِزَامِ لَمَّا تَضَّرَّعُوا إِلَى اللَّهِ قَوَّاهُمْ حَتَّى هَزَمُوا عَسْكَرَ الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَتَى اعْتَمَدَ عَلَى الدُّنْيَا فَاتَهُ الدِّينُ وَالدُّنْيَا، وَمَتَى أَطَاعَ اللَّهَ وَرَجَّحَ الدِّينَ عَلَى الدُّنْيَا آتَاهُ اللَّهُ الدِّينَ وَالدُّنْيَا عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، فَكَانَ ذِكْرُ هَذَا تَسْلِيَةً لِأُولَئِكَ الَّذِينَ أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِمُقَاطَعَةِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْمَسَاكِنِ، لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الدِّينِ وَتَصْبِيرًا لَهُمْ عَلَيْهَا، وَوَعْدًا لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الرَّمْزِ بِأَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَاللَّهُ تَعَالَى يُوصِلُهُمْ إِلَى أَقَارِبِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ، هَذَا تَقْرِيرُ النَّظْمِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: النَّصْرُ: الْمَعُونَةُ عَلَى الْعَدُوِّ خَاصَّةً، وَالْمُوَاطِنُ جَمْعُ مَوْطِنٍ، وَهُوَ/ كُلُّ مَوْضِعٍ أَقَامَ بِهِ الْإِنْسَانُ لِأَمْرٍ، فَعَلَى هَذَا: مَوَاطِنُ الحرب مقاماتها مواقفها وَامْتِنَاعُهَا مِنَ الصَّرْفِ لِأَنَّهُ جَمْعٌ عَلَى صِيغَةٍ لَمْ يَأْتِ عَلَيْهَا وَاحِدٌ، وَالْمَوَاطِنُ الْكَثِيرَةُ غَزَوَاتُ رَسُولِ اللَّهِ. وَيُقَالُ: إِنَّهَا ثَمَانُونَ مَوْطِنًا، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي نَصَرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ نَصَرَهُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَهُ.

ثُمَّ قَالَ: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ أَيْ وَاذْكُرُوا يَوْمَ حُنَيْنٍ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الْمَوَاطِنِ حال ما أعجبتكم كثرتكم.

المسألة الثالثة: [في شأن نزول الآية] لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، وَقَدْ بَقِيَتْ أَيَّامٌ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، خَرَجَ مُتَوَجِّهًا إِلَى حُنَيْنٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>