الَّذِي يَكُونُ فِي الْقَوْمِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ وَلِيجَةٌ، فَالْوَلِيجَةُ فَعِيلَةٌ مِنْ وَلَجَ كَالدَّخِيلَةِ مِنْ دَخَلَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: يُقَالُ هُوَ وَلِيجَتِي وَهُمْ وَلِيجَتِي لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ الْمُكَلَّفَ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ لَا يَتَخَلَّصُ عَنِ الْعِقَابِ إِلَّا عِنْدَ حُصُولِ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَعْلَمَ اللَّه الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ، وَذُكِرَ الْعِلْمُ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْمَعْلُومُ، وَالْمُرَادُ أَنْ يَصْدُرَ الْجِهَادُ عَنْهُمْ إِلَّا أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ وُجُودُ الشَّيْءِ يَلْزَمُهُ مَعْلُومُ الْوُجُودِ عِنْدَ اللَّه، لَا جَرَمَ جَعَلَ عِلْمَ اللَّه بِوُجُودِهِ كِنَايَةً عَنْ وُجُودِهِ، وَاحْتَجَّ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ الشَّيْءَ إِلَّا حَالَ وُجُودِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ وَإِنْ كَانَ يُوهِمُ مَا ذَكَرَهُ إِلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مَا بَيَّنَّاهُ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الشَّرْطِ أَنَّ الْمُجَاهِدَ قَدْ يُجَاهِدُ وَلَا يَكُونُ مُخْلِصًا بَلْ يَكُونُ مُنَافِقًا، بَاطِنُهُ خِلَافُ ظَاهِرِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَّخِذُ الْوَلِيجَةَ مِنْ دُونِ اللَّه وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَتْرُكُهُمْ إِلَّا إِذَا أَتَوْا بِالْجِهَادِ مَعَ الْإِخْلَاصِ خَالِيًا عَنِ النِّفَاقِ وَالرِّيَاءِ وَالتَّوَدُّدِ إِلَى الْكُفَّارِ وَإِبْطَالِ مَا يُخَالِفُ طَرِيقَةَ الدِّينِ وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّهُ لَيْسَ الْغَرَضُ مِنْ إِيجَابِ الْقِتَالِ نَفْسَ الْقِتَالِ فَقَطْ، بَلِ الْغَرَضُ أَنْ يُؤْتَى بِهِ انْقِيَادًا لِأَمْرِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَلِحُكْمِهِ وَتَكْلِيفِهِ، لِيَظْهَرَ بِهِ بَذْلُ النَّفْسِ وَالْمَالِ فِي طَلَبِ رِضْوَانِ اللَّه تَعَالَى فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ بِهِ الِانْتِفَاعُ، وَأَمَّا الْإِقْدَامُ عَلَى الْقِتَالِ لِسَائِرِ الْأَغْرَاضِ فَذَاكَ مِمَّا لَا يُفِيدُ أَصْلًا.
ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أَيْ عَالِمٌ بِنِيَّاتِهِمْ وَأَغْرَاضِهِمْ مُطَّلِعٌ عَلَيْهَا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ، فَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُبَالِغَ فِي أَمْرِ النِّيَّةِ وَرِعَايَةِ الْقَلْبِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: إِنَّ اللَّه لَا يَرْضَى أَنْ يَكُونَ الْبَاطِنُ خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ اللَّه مِنْ خَلْقِهِ الِاسْتِقَامَةَ كَمَا قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت: ٣٠ الأحقاف: ١٣] قَالَ: وَلَمَّا فُرِضَ الْقِتَالُ تَبَيَّنَ الْمُنَافِقُ مِنْ غَيْرِهِ وَتَمَيَّزَ مَنْ يُوَالِي الْمُؤْمِنِينَ مِمَّنْ يُعَادِيهِمْ.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٧ الى ١٨]
مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)
[فِي قَوْلُهُ تَعَالَى مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَدَأَ السُّورَةَ بِذِكْرِ الْبَرَاءَةِ عَنِ الْكُفَّارِ وَبَالَغَ فِي إِيجَابِ ذَلِكَ وَذَكَرَ مِنْ أَنْوَاعِ فَضَائِحِهِمْ وَقَبَائِحِهِمْ مَا يُوجِبُ تِلْكَ الْبَرَاءَةَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ شُبَهًا احْتَجُّوا بِهَا/ فِي أَنَّ هَذِهِ الْبَرَاءَةَ غَيْرُ جَائِزَةٍ وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْمُخَالَطَةُ وَالْمُنَاصَرَةُ حَاصِلَةً، فَأَوَّلُهَا مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ مَوْصُوفُونَ بِصِفَاتٍ حَمِيدَةٍ وَخِصَالٍ مَرْضِيَةٍ وَهِيَ تُوجِبُ مُخَالَطَتَهُمْ وَمُعَاوَنَتَهُمْ وَمُنَاصَرَتَهُمْ، وَمِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الصِّفَاتِ كَوْنُهُمْ عَامِرِينَ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: لَمَّا أُسِرَ الْعَبَّاسُ يَوْمَ بَدْرٍ، أَقْبَلَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَعَيَّرُوهُ بِكُفْرِهِ باللَّه وقطعية الرَّحِمِ، وَأَغْلَظَ لَهُ عَلِيٌّ وَقَالَ: أَلَكُمْ مَحَاسِنُ فَقَالَ: نَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَنَحْجُبُ الْكَعْبَةَ وَنَسَقِي الْحَاجَّ وَنَفُكُّ الْعَانِيَ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى رَدًّا عَلَى الْعَبَّاسِ مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute