للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رُوِيَ وَأَسْقَيْتُهُ نَهْرًا، أَيْ جَعَلْتُهُ شُرْبًا لَهُ وَقَوْلَهُ: فَأَسْقَيْناكُمُوهُ أَيْ جَعَلْنَاهُ/ سَقْيًا لَكُمْ وَرُبَّمَا قَالُوا فِي أَسْقَى سَقَى كَقَوْلِ لَبِيدٍ يَصِفُ سَحَابًا:

أَقُولُ وَصَوْبُهُ مِنِّي بَعِيدٌ ... يَحُطُّ السَّيْبُ مِنْ قُلَلِ الْجِبَالِ

سَقَى قَوْمِي بَنِي نَجْدٍ وَأَسْقَى ... نُمَيْرًا وَالْقَبَائِلَ مِنْ هِلَالِ

فَقَوْلُهُ: سَقَى قَوْمِي لَيْسَ يُرِيدُ بِهِ مَا يَرْوِي عِطَاشَهُمْ ولكن يريد رزقهم سقيا لبلادهم يُخَصِّبُونَ بِهَا، وَبَعِيدٌ أَنْ يَسْأَلَ لِقَوْمِهِ مَا يروى العطاش وليغرهم مَا يُخَصِّبُونَ بِهِ. وَأَمَّا سُقْيَا السُّقْيَةِ فَلَا يُقَالُ فِيهَا أَسْقَاهُ، وَأَمَّا قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:

وَأَسْقِيهِ حَتَّى كَادَ مِمَّا أَبُّنُهُ ... تُكَلِّمُنِي أَحْجَارُهُ وَمَلَاعِبُهُ

فَمَعْنَى أَسْقِيهِ أَدْعُو لَهُ بِالسِّقَاءِ، وَأَقُولُ سَقَاهُ اللَّهُ وَقَوْلُهُ: وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ يَعْنِي بِهِ ذَلِكَ الْمَاءَ الْمُنَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ يعني لستم له بحافظين.

[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]

وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥)

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ السَّادِسُ مِنَ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِحُصُولِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ لِهَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْمُخْتَارِ.

أما قوله: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ فَفِيهِ قَوْلَانِ: مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ إِحْيَاءِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: وَصْفُ النَّبَاتِ بِالْإِحْيَاءِ مَجَازٌ فَوَجَبَ تَخْصِيصُهُ بِإِحْيَاءِ الْحَيَوَانِ وَلَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ عَلَى خَلْقِ الْحَيَاةِ إِلَّا لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ كَانَ حُصُولُ الْحَيَاةِ لِلْحَيَوَانِ دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَقَوْلِهِ: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ يُفِيدُ الْحَصْرَ أَيْ لَا قُدْرَةَ عَلَى الْإِحْيَاءِ وَلَا عَلَى الْإِمَاتَةِ إِلَّا لَنَا، وَقَوْلُهُ: وَنَحْنُ الْوارِثُونَ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ إِذَا مَاتَ جَمِيعُ الْخَلَائِقِ، فَحِينَئِذٍ يَزُولُ مُلْكُ كُلِّ أَحَدٍ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَيَكُونُ اللَّهُ هُوَ الْبَاقِي الْحَقُّ الْمَالِكُ لِكُلِّ الْمَمْلُوكَاتِ وَحْدَهُ فَكَانَ هَذَا شَبِيهًا بِالْإِرْثِ فَكَانَ وَارِثًا مِنْ هَذَا الوجه.

وَأما قوله: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: الْمُسْتَقْدِمِينَ يُرِيدُ أَهْلَ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُسْتَأْخِرِينَ يُرِيدُ/ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ. الثَّانِي: أَرَادَ بِالْمُسْتَقْدِمِينَ الصَّفَّ الْأَوَّلَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، وَبِالْمُسْتَأْخِرِينَ الصَّفَّ الْآخِرَ،

رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَغَّبَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ فِي الصَّلَاةِ، فَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ،

وَالْمَعْنَى: أَنَّا نَجْزِيهِمْ عَلَى قَدْرِ نِيَّاتِهِمْ. الثَّالِثُ: قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي فِي وَصْفِ الْقِتَالِ. الرَّابِعُ:

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْجَوْزَاءِ كَانَتِ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ تُصَلِّي خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ قَوْمٌ يَتَقَدَّمُونَ إِلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ لِئَلَّا يَرَوْهَا وَآخَرُونَ يَتَخَلَّفُونَ وَيَتَأَخَّرُونَ لِيَرَوْهَا وَإِذَا رَكَعُوا جَافَوْا أَيْدِيهِمْ لِيَنْظُرُوا مِنْ تَحْتِ آبَاطِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.

الْخَامِسُ: قِيلَ الْمُسْتَقْدِمُونَ هُمُ الْأَمْوَاتُ وَالْمُسْتَأْخِرُونَ هُمُ الْأَحْيَاءُ. وَقِيلَ الْمُسْتَقْدِمُونَ هُمُ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ، وَالْمُسْتَأْخِرُونَ هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْمُسْتَقْدِمُونَ مَنْ خُلِقَ وَالْمُسْتَأْخِرُونَ مَنْ لَمْ يُخْلَقْ.

<<  <  ج: ص:  >  >>