للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[الجزء العاشر]

[تتمة سورة النساء]

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

[[سورة النساء (٤) : آية ١٧]]

إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الْمُرْتَكِبَيْنِ لِلْفَاحِشَةِ إِذَا تَابَا وَأَصْلَحَا زَالَ الْأَذَى عَنْهُمَا، وَأَخْبَرَ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَيْضًا أَنَّهُ تَوَّابٌ رَحِيمٌ، ذَكَرَ وَقْتَ التَّوْبَةِ وَشَرْطَهَا، وَرَغَّبَهُمْ فِي تَعْجِيلِهَا لِئَلَّا يَأْتِيَهِمُ الْمَوْتُ وَهُمْ مُصِرُّونَ فلا تنفعهم التوبة، [في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَمَّا حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ الْبَقَرَةِ: ٥٤] وَاحْتَجَّ الْقَاضِي عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّه عَقْلًا قَبُولُ التَّوْبَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ «عَلَى» لِلْوُجُوبِ فَقَوْلُهُ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّه عَقْلًا قَبُولُهَا.

الثَّانِي: لَوْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ عَلَى مُجَرَّدِ الْقَبُولِ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَرْقٌ لِأَنَّ هَذَا أَيْضًا إِخْبَارٌ عَنِ الْوُقُوعِ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الْقَبُولِ وَهَذَا عَلَى الْوُقُوعِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ وَلَا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ عَلَى اللَّه بَاطِلٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لَازِمَةَ الْوُجُوبِ اسْتِحْقَاقُ الذَّمِّ عِنْدَ التَّرْكِ، فَهَذِهِ اللَّازِمَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُمْتَنِعَةَ الثُّبُوتِ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى، أَوْ غَيْرَ مُمْتَنِعَةٍ فِي حَقِّهِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ الْوَاجِبِ لَمَّا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِهَذَا الذَّمِّ، وَهَذَا الذَّمُّ مُحَالُ الثُّبُوتِ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّرْكُ مُمْتَنِعَ الثُّبُوتِ فِي حَقِّ اللَّه، وَإِذَا كَانَ التَّرْكُ مُمْتَنِعَ الثُّبُوتِ عَقْلًا كَانَ الْفِعْلُ وَاجِبَ الثُّبُوتِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ اللَّه تَعَالَى مُوجَبًا بِالذَّاتِ لَا فَاعِلًا بِالِاخْتِيَارِ/ وَذَلِكَ بَاطِلٌ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ اسْتِحْقَاقُ الذَّمِّ غَيْرَ مُمْتَنِعِ الْحُصُولِ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى، فَكُلُّ مَا كَانَ مُمْكِنًا لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ، فَيَلْزَمُ جَوَازُ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ مَعَ كَوْنِهِ إِلَهًا يَكُونُ مَوْصُوفًا بِاسْتِحْقَاقِ الذَّمِّ وَذَلِكَ مُحَالٌ لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ، وَلَمَّا بَطَلَ هَذَانِ الْقِسْمَانِ ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ عَلَى اللَّه تَعَالَى بَاطِلٌ.

الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ قَادِرِيَّةَ الْعَبْدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فِعْلِ التَّوْبَةِ وَتَرْكِهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى السَّوِيَّةِ، أَوْ لَا يَكُونَ عَلَى السَّوِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى السَّوِيَّةِ لَمْ يَتَرَجَّحْ فِعْلُ التَّوْبَةِ عَلَى تَرْكِهَا إِلَّا لِمُرَجِّحٍ، ثُمَّ ذَلِكَ الْمُرَجِّحُ إِنْ حَدَثَ لَا عَنْ مُحْدِثٍ لَزِمَ نَفْيُ الصَّانِعِ، وَإِنْ حَدَثَ عَنِ الْعَبْدِ عَادَ التَّقْسِيمُ وَإِنْ حَدَثَ عَنِ اللَّه فَحِينَئِذٍ الْعَبْدُ إِنَّمَا أَقْدَمَ عَلَى التَّوْبَةِ بِمَعُونَةِ اللَّه وَتَقْوِيَتِهِ، فَتَكُونُ تِلْكَ التَّوْبَةُ إِنْعَامًا مِنَ اللَّه تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ، وَإِنْعَامُ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُنْعِمَ عَلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى، فَثَبَتَ أَنَّ صُدُورَ التَّوْبَةِ عَنِ الْعَبْدِ لَا يُوجِبُ عَلَى اللَّه الْقَبُولَ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ قَادِرِيَّةُ الْعَبْدِ لَا تَصْلُحُ لِلتَّرْكِ وَالْفِعْلِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْجَبْرُ أَلْزَمَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ أَظْهَرَ بطلانا وفسادا.

<<  <  ج: ص:  >  >>