الِانْتِفَاعَ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا مَشُوبٌ بِالْمَضَارِّ، فَلَا تَرَى شَيْئًا مِنَ اللَّذَّاتِ إِلَّا وَيَكُونُ سَبَبًا لِلْمِحْنَةِ مَنْ أَلْفِ وَجْهٍ بِخِلَافِ مَنَافِعِ الْآخِرَةِ فَإِنَّهَا خَالِصَةٌ عَنِ الشَّوَائِبِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ عَلِمَ أَنَّ الِانْقِيَادَ لِوَعْدِ الرَّحْمَنِ بِالْفَضْلِ وَالْمَغْفِرَةِ أَوْلَى مِنَ الِانْقِيَادِ لِوَعْدِ الشَّيْطَانِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمُرَادُ بِالْمَغْفِرَةِ تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ كَمَا قَالَ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التَّوْبَةِ: ١٠٣] وَفِي الْآيَةِ لَفْظَانِ يَدُلَّانِ عَلَى كَمَالِ هَذِهِ الْمَغْفِرَةِ أَحَدُهَا: التَّنْكِيرُ فِي لَفْظَةِ الْمَغْفِرَةِ، وَالْمَعْنَى مَغْفِرَةً أَيَّ مَغْفِرَةٍ وَالثَّانِي: قَوْلُهُ مَغْفِرَةً مِنْهُ فَقَوْلُهُ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ حَالِ هَذِهِ الْمَغْفِرَةِ لِأَنَّ كَمَالَ كَرَمِهِ وَنِهَايَةَ جُودِهِ مَعْلُومٌ لِجَمِيعِ الْعُقَلَاءِ وَكَوْنُ الْمَغْفِرَةِ مِنْهُ مَعْلُومٌ أَيْضًا لِكُلِّ أَحَدٍ فَلَمَّا خَصَّ هَذِهِ الْمَغْفِرَةَ بِأَنَّهَا مِنْهُ عُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْظِيمُ حَالِ هَذِهِ الْمَغْفِرَةِ، لِأَنَّ عِظَمَ الْمُعْطِي يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ الْعَطِيَّةِ، وَكَمَالُ هَذِهِ الْمَغْفِرَةِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا قَالَهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الْفُرْقَانِ: ٧٠] وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يَجْعَلَهُ شَفِيعًا فِي غُفْرَانِ ذُنُوبِ سَائِرِ الْمُذْنِبِينَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَمَالُ تِلْكَ الْمَغْفِرَةِ أَمْرًا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ عَقْلُنَا مَا دُمْنَا فِي دَارِ الدُّنْيَا فَإِنَّ تَفَاصِيلَ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ أَكْثَرُهَا مَحْجُوبَةٌ عَنَّا مَا دُمْنَا فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا مَعْنَى الْفَضْلِ فَهُوَ الْخَلْفُ الْمُعَجَّلُ فِي الدُّنْيَا، وهذا الفضل يحتمل عندي وجوهاًأحدها: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْفَضْلِ الْفَضِيلَةُ الْحَاصِلَةُ لِلنَّفْسِ وَهِيَ فَضِيلَةُ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَرَاتِبَ السَّعَادَةِ ثَلَاثٌ: نَفْسَانِيَّةٌ، وَبَدَنِيَّةٌ، وَخَارِجِيَّةٌ، وَمِلْكُ الْمَالِ مِنَ الْفَضَائِلِ الْخَارِجِيَّةِ وَحُصُولُ خَلْقِ الْجُودِ وَالسَّخَاوَةِ مِنَ الْفَضَائِلِ النَّفْسَانِيَّةِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ أَشْرَفَ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ: السِّعَادَاتُ النَّفْسَانِيَّةُ، وَأَخَسَّهَا السِّعَادَاتُ الْخَارِجِيَّةُ فَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ إِنْفَاقُ الْمَالِ كَانَتِ السَّعَادَةُ الْخَارِجِيَّةُ حَاصِلَةً وَالنَّقِيضَةُ النَّفْسَانِيَّةُ مَعَهَا حاصلها وَمَتَى حَصَلَ الْإِنْفَاقُ حَصَلَ الْكَمَالُ النَّفْسَانِيُّ وَالنُّقْصَانُ الْخَارِجِيُّ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ أَكْمَلُ، فَثَبَتَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِنْفَاقِ يَقْتَضِي حُصُولَ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ مِنْ حُصُولِ الْفَضْلِ وَالثَّانِيَ: وهو أنه متى حصل مَلَكَةُ الْإِنْفَاقِ زَالَتْ عَنِ الرُّوحِ هَيْئَةُ الِاشْتِغَالِ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا وَالتَّهَالُكُ فِي مَطَالِبِهَا، وَلَا مَانِعَ لِلرُّوحِ مِنْ تَجَلِّي نُورِ جَلَالِ اللَّهِ لَهَا إِلَّا حُبَّ الدُّنْيَا، وَلِذَلِكَ
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَوْلَا أَنَّ الشَّيَاطِينَ يُوحُونَ إِلَى قُلُوبِ بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات»
وَإِذَا زَالَ عَنْ وَجْهِ الْقَلْبِ غُبَارُ حُبِّ الدُّنْيَا اسْتَنَارَ بِأَنْوَارِ عَالَمِ الْقُدْسِ وَصَارَ كَالْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ وَالْتَحَقَ بِأَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ، وَهَذَا هُوَ الْفَضْلُ لَا غَيْرَ وَالثَّالِثَ: وَهُوَ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ: أَنَّهُ مَهْمَا عُرِفَ مِنَ الْإِنْسَانِ كَوْنُهُ مُنْفِقًا لِأَمْوَالِهِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرَاتِ مَالَتِ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ فَلَا يُضَايِقُونَهُ فِي مَطَالِبِهِ، فَحِينَئِذٍ تَنْفَتِحُ عَلَيْهِ أَبْوَابُ الدُّنْيَا، وَلِأَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْفَقَ مَالَهُ عَلَيْهِمْ يُعِينُونَهُ بِالدُّعَاءِ وَالْهِمَّةِ فَيَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ أَبْوَابَ الْخَيْرِ.
ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ أَيْ أَنَّهُ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ، قَادِرٌ عَلَى إِغْنَائِكُمْ، وَإِخْلَافِ/ مَا تُنْفِقُونَهُ وَهُوَ عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا تُنْفِقُونَ، فَهُوَ يُخْلِفُهُ عَلَيْكُمْ.
[[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٩]]
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ المتقدمة أن الشيطان يعد بالفقر وَيَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَأَنَّ الرَّحْمَنَ يَعِدُ بِالْمَغْفِرَةِ وَالْفَضْلِ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي لِأَجْلِهِ وَجَبَ تَرْجِيحُ وَعْدِ الرَّحْمَنِ عَلَى وَعْدِ الشَّيْطَانِ هُوَ أن وعد
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute