للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالرَّحِيمُ الْمُحْسِنُ النَّاظِرُ لِعِبَادِهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يُرَجِّحَ الْجَانِبَ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ صَلَاحًا وَأَقَلُّ فَسَادًا، فَعَلِمْنَا أَنَّ إِبْقَاءَ ذَلِكَ الْكَافِرِ فِي ذَلِكَ الْعَمَهِ وَالطُّغْيَانِ يَقْدَحُ فِي أَنَّهُ لَا يريد به إلا الخير والإحسان.

[[سورة الأنعام (٦) : آية ١١١]]

وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَفْصِيلَ مَا ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ بِقَوْلِهِ: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ فَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَعْطَاهُمْ مَا طَلَبُوهُ مِنْ إِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى حَتَّى كَلَّمُوهُمْ بَلْ لَوْ زَادَ فِي ذَلِكَ مَا لَا يَبْلُغُهُ اقْتِرَاحُهُمْ بِأَنْ يَحْشُرَ عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهِ. وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُسْتَهْزِئُونَ بِالْقُرْآنِ كَانُوا خَمْسَةً: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ وَالْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهْرِيُّ وَالْأَسْوَدُ بْنُ المطلب والحرث بْنُ حَنْظَلَةَ ثُمَّ إِنَّهُمْ أَتَوُا الرَّسُولَ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَقَالُوا لَهُ أَرِنَا الْمَلَائِكَةَ/ يَشْهَدُوا بِأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ أَوِ ابْعَثْ لَنَا بَعْضَ مَوْتَانَا حَتَّى نَسْأَلَهُمْ أَحَقٌّ مَا تَقُولُهُ أَمْ بَاطِلٌ؟ أَوِ ائْتِنَا بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أَيْ كَفِيلًا عَلَى مَا تَدَّعِيهِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَدْ ذَكَرْنَا مِرَارًا أَنَّهُمْ لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ دَفْعَةً وَاحِدَةً كَانَ الْقَوْلُ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْوَاقِعَةِ الْفُلَانِيَّةِ مُشْكِلًا صَعْبًا فَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ جَوَابُ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَوْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَآمَنُوا بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْكَلَامَ بَيَانًا لِكَذِبِهِمْ وَأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إِنْزَالِ الْآيَاتِ بَعْدَ الْآيَاتِ وَإِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ بَعْدَ الْمُعْجِزَاتِ بَلِ الْمُعْجِزَةُ الْوَاحِدَةُ لَا بُدَّ مِنْهَا لِيَتَمَيَّزَ الصَّادِقُ عَنِ الْكَاذِبِ فَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا فَتَحَكُّمٌ مَحْضٌ وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ وَإِلَّا فَلَهُمْ أَنْ يَطْلُبُوا بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَةِ الثَّانِيَةِ ثَالِثَةً وَبَعْدَ الثَّالِثَةِ رَابِعَةً وَيَلْزَمُ أَنْ لَا تَسْتَقِرَّ الْحُجَّةُ وَأَنْ لَا يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إِلَى مَقْطَعٍ وَمَفْصِلٍ وَذَلِكَ يُوجِبُ سَدَّ بَابِ النُّبُوَّاتِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: قِبَلًا هَاهُنَا وَفِي الْكَهْفِ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالضَّمِّ فِيهِمَا فِي السُّورَتَيْنِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو هَاهُنَا وَفِي الْكَهْفِ بِالْكَسْرِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ أَبُو زَيْدٍ يُقَالُ لَقِيتُ فُلَانًا قِبَلَا وَمُقَابَلَةً وَقُبُلًا وَقِبِلًا وَقَبِيلًا كُلُّهُ وَاحِدٌ. وَهُوَ الْمُوَاجَهَةُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: فَعَلَى قَوْلِ أَبِي زَيْدٍ الْمَعْنَى فِي الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ وَإِنِ اخْتَلَفَ اللَّفْظَانِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَثْبَتَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ تَفَاوُتًا فِي الْمَعْنَى فَقَالَ أَمَّا مَنْ قَرَأَ قِبَلًا بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ عِيَانًا يُقَالُ لَقِيتُهُ قِبَلًا أَيْ مُعَايَنَةً

وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قلت للنبي صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ أَكَانَ آدَمُ نَبِيًّا؟ قَالَ «نَعَمْ كَانَ نَبِيًّا كَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قِبَلًا»

وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ قُبُلًا فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ جَمْعَ قَبِيلٍ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْكَفِيلُ يُقَالُ قَبِلْتُ بِالرَّجُلِ أُقْبِلُ قُبَالَةً أَيْ كُلِّفْتُ بِهِ. وَيَكُونُ الْمَعْنَى لَوْ حَشَرَ عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ وَكُفِلُوا بِصِحَّةِ مَا يَقُولُ لَمَا آمَنُوا وَمَوْضِعُ الْإِعْجَازِ فِيهِ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمَحْشُورَةَ مِنْهَا مَا يَنْطِقُ وَمِنْهَا مَا لَا يَنْطِقُ فَإِذَا أَنْطَقَ اللَّهُ الْكُلَّ وَأَطْبَقُوا عَلَى قَبُولِ هَذِهِ الْكَفَالَةِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُعْجِزَاتِ وَثَانِيهَا أَنْ يَكُونَ قُبُلًا جَمْعَ قُبَيْلٍ بِمَعْنَى الصِّنْفِ وَالْمَعْنَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبَيْلًا قُبَيْلًا وَمَوْضِعُ الْإِعْجَازِ فِيهِ هُوَ حَشْرُهَا بَعْدَ مَوْتِهَا ثُمَّ إِنَّهَا عَلَى اخْتِلَافِ طَبَائِعِهَا تَكُونُ مُجْتَمِعَةً فِي مَوْقِفٍ وَاحِدٍ. وَثَالِثُهَا أَنْ يَكُونَ قُبُلًا بِمَعْنَى قِبَلًا أَيْ مُوَاجَهَةً وَمُعَايَنَةً كَمَا فَسَّرَهُ ابو زيد.

<<  <  ج: ص:  >  >>