الرُّجُوعُ إِلَى اللَّه تَعَالَى فَالْمُرَادُ إِلَى حَيْثُ لَا مَالِكَ وَلَا حَاكِمَ سِوَاهُ لَا أَنَّهُ رُجُوعٌ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَلَى اللَّه تَعَالَى ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ الْعَبَثِ بِقَوْلِهِ: فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَالْمَلِكُ هُوَ الْمَالِكُ لِلْأَشْيَاءِ الَّذِي لَا يَبِيدُ وَلَا يَزُولُ مُلْكُهُ وَقُدْرَتُهُ، وَأَمَّا الْحَقُّ فَهُوَ الَّذِي يَحِقُّ لَهُ الْمُلْكُ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ وَإِلَيْهِ، وَهُوَ الثَّابِتُ الَّذِي لَا يَزُولُ وَلَا يَزُولُ مُلْكُهُ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ سِوَاهُ وَأَنَّ مَا عَدَاهُ فَمَصِيرُهُ إِلَى الْفَنَاءِ وَمَا يَفْنَى لَا يَكُونُ إِلَهًا وَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى: رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ قَالَ أَبُو مسلم والعرش هاهنا السموات بِمَا فِيهَا مِنَ الْعَرْشِ الَّذِي تَطُوفُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ وَيَجُوزُ أَنْ يَعْنِيَ بِهِ الْمُلْكَ الْعَظِيمَ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْعَرْشُ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا وَصَفَهُ بِالْكَرِيمِ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ مِنْهُ وَالْخَيْرُ وَالْبَرَكَةُ وَلِنِسْبَتِهِ إِلَى أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ كَمَا يُقَالُ بَيْتٌ كَرِيمٌ إِذَا كَانَ سَاكِنُوهُ كِرَامًا وَقُرِئَ الكريم بالرفع ونحوه ذو العرش المجيد.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١١٧ الى ١١٨]
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨)
اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ هُوَ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَتْبَعُهُ بِأَنَّ مَنِ ادَّعَى إِلَهًا آخَرَ فَقَدِ ادَّعَى بَاطِلًا مِنْ حَيْثُ لَا بُرْهَانَ لَهُمْ فِيهِ، وَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَا بُرْهَانَ فِيهِ لَا يَجُوزُ إِثْبَاتُهُ، وَذَلِكَ يُوجِبُ صِحَّةَ النَّظَرِ وَفَسَادَ التَّقْلِيدِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ فَجَزَاؤُهُ الْعِقَابُ الْعَظِيمُ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ كَأَنَّهُ قَالَ إِنَّ عِقَابَهُ بَلَغَ إِلَى حَيْثُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى حِسَابِهِ إِلَّا اللَّه تَعَالَى وَقُرِئَ أَنَّهُ لَا يُفْلِحُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَمَعْنَاهُ حِسَابُهُ عَدَمُ الْفَلَاحِ جَعَلَ فَاتِحَةَ السُّورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١] وَخَاتِمَتَهَا إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ فَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْفَاتِحَةِ وَالْخَاتِمَةِ. ثُمَّ أَمْرُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِأَنَّهُ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تَتَّصِلُ هَذِهِ الْخَاتِمَةُ بِمَا قَبْلَهَا؟ قُلْنَا لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ الْكُفَّارِ فِي جَهْلِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَعَذَابِهِمْ فِي الْآخِرَةِ أَمَرَ بِالِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَالِالْتِجَاءِ إِلَى دَلَائِلِ غُفْرَانِهِ وَرَحْمَتِهِ، فَإِنَّهُمَا هُمَا الْعَاصِمَانِ عَنْ كُلِّ الْآفَاتِ وَالْمَخَافَاتِ،
وَرُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ وَآخِرَهَا مِنْ كُنُوزِ الْعَرْشِ مَنْ عَمِلَ بِثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِهَا، وَاتَّعَظَ بِأَرْبَعٍ مِنْ آخِرِهَا فَقَدْ نَجَا وَأَفْلَحَ.
واللَّه أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ وَالْحَمْدُ للَّه وَحْدَهُ وَصَلَاتُهُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَعِتْرَتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute