للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِكَوْنِ الْإِنْسَانِ ظَالِمًا بِآيَاتِ اللَّهِ إِلَّا كَوْنُهُ كَافِرًا بِهَا مُنْكِرًا لَهَا فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَهْلُ الْكُفْرِ وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَا

رُوِيَ أَنَّهُ إِذَا خَفَّتْ حَسَنَاتُ الْمُؤْمِنِ أَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ مِنْ حُجْرَتِهِ بِطَاقَةً كَالْأُنْمُلَةِ فَيُلْقِيهَا فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ الْيُمْنَى الَّتِي فِيهَا حَسَنَاتُهُ فَتَرْجَحُ الْحَسَنَاتُ فَيَقُولُ ذَلِكَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مَا أَحْسَنَ وَجْهَكَ وَأَحْسَنَ خُلُقَكَ فَمَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: «أَنَا نَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ وَهَذِهِ صَلَاتُكَ الَّتِي كُنْتَ تُصَلِّي عَلَيَّ قَدْ وَفَّيْتُكَ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إِلَيْهَا» وَهَذَا الْخَبَرُ رَوَاهُ الْوَاحِدِيُّ فِي «الْبَسِيطِ»

وَأَمَّا

جُمْهُورُ العلماء فرووا هاهنا الْخَبَرَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى يُلْقِي فِي كِفَّةِ الْحَسَنَاتِ الْكِتَابَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.

قَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى أَنَّهُ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ بِحَقِّهِمَا مِنَ الْعِبَادَاتِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ لَكَانَ مَنْ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَعَاصِيَ لَا تَضُرُّهُ وَذَلِكَ إِغْرَاءٌ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْخَبَرُ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ كُلَّمَا كَانَ. أَشْرَفَ وَأَعْلَى دَرَجَةً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ ثَوَابًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَحَبَّتَهُ أَعْلَى شَأْنًا وَأَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَوْفَى ثَوَابًا وَأَعْلَى دَرَجَةً مِنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ. وَأَمَّا الْأَثَرُ فَلِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلُوا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ.

وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ: إِنَّ الْمُرْجِئَةَ الَّذِينَ يَقُولُونَ الْمَعْصِيَةُ لَا تَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى حَصَرَ أَهْلَ مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ فِي قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الَّذِينَ رَجَحَتْ كِفَّةُ حَسَنَاتِهِمْ وَحُكِمَ عَلَيْهِمْ بِالْفَلَاحِ. وَالثَّانِي: الَّذِينَ رَجَحَتْ كِفَّةُ سَيِّئَاتِهِمْ وَحُكِمَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ الَّذِينَ كَانُوا يَظْلِمُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُعَاقَبُ أَلْبَتَّةَ. وَنَحْنُ نَقُولُ فِي الْجَوَابِ: أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْقِسْمَ الثَّالِثَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ فَقَالَ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ:

١١٦] وَالْمَنْطُوقُ رَاجِحٌ عَلَى الْمَفْهُومِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى إِثْبَاتِهِ وَأَيْضًا فَقَالَ تَعَالَى فِي هَذَا الْقِسْمِ: فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْكَافِرِ وَأَمَّا الْعَاصِي الْمُؤْمِنُ فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ أَيَّامًا ثُمَّ يُعْفَى عَنْهُ وَيَتَخَلَّصُ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَا خَسِرَ نَفْسَهُ بَلْ فَازَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ أَبَدَ الْآبَادِ مِنْ غير زوال وانقطاع. والله اعلم.

[[سورة الأعراف (٧) : آية ١٠]]

وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (١٠)

فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْخَلْقَ بِمُتَابَعَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَبِقَبُولِ دَعَوْتِهِمْ ثُمَّ خَوَّفَهُمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا وَهُوَ قَوْلُهُ: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها [الأعراف: ٤] ثُمَّ خَوَّفَهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: السؤال وهو قوله: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ [الأعراف: ٦] وَالثَّانِي: بِوَزْنِ الْأَعْمَالِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ [الأعراف: ٨] رَغَّبَهُمْ فِي قَبُولِ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِطَرِيقٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ كَثُرَتْ نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَكَثْرَةُ النِّعَمِ تُوجِبُ الطَّاعَةَ فَقَالَ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ فَقَوْلُهُ: مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ أَيْ جَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَكَانًا وَقَرَارًا وَمَكَّنَّاكُمْ فِيهَا وَأَقْدَرْنَاكُمْ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهَا وَجَعَلَنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَالْمُرَادُ مِنَ الْمَعَايِشِ: وُجُوهُ الْمَنَافِعِ وَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهَا مَا يَحْصُلُ بِخَلْقِ الله تعالى ابتداء مثل خلق السماء وَغَيْرِهَا وَمِنْهَا مَا يَحْصُلُ بِالِاكْتِسَابِ وَكِلَاهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا حَصَلَ

<<  <  ج: ص:  >  >>