للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْإِنْسَانِ أَعْلَى حَالًا مِنْ خَلِيفَتِهِ وَرَدُّ الْإِنْسَانِ مِنَ الْمَنْصِبِ الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْوَنِ يَكُونُ إِهَانَةً.

قُلْنَا الْأَمْرُ وَإِنْ كَانَ كَمَا ذَكَرْتُمْ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الْأَصْلَ فِي تِلْكَ النُّبُوَّةِ.

فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا كَانَ هَارُونُ نَبِيًّا وَالنَّبِيُّ لَا يَفْعَلُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ فَكَيْفَ وَصَّاهُ بِالْإِصْلَاحِ.

قُلْنَا: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ التَّأْكِيدُ كَقَوْلِهِ: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَةِ: ٢٦٠] والله اعلم.

[[سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٣]]

وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ الْفَائِدَةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا حَضَرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمِيقَاتَ وَهِيَ أَنْ كَلَّمَهُ رَبُّهُ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ شَرِيفَةٌ عَالِيَةٌ مِنَ الْعُلُومِ الْإِلَهِيَّةِ.

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى كَلَّمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كَلَامُهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْحُرُوفِ الْمُؤَلَّفَةِ الْمُنْتَظِمَةِ ومنهم من قال: كلامه صفة حقيقة مُغَايِرَةٌ لِلْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ. أَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ فالعقلاء المحصلون أنفقوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ كَوْنُهُ حَادِثًا كَائِنًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ. وَزَعَمَتِ الْحَنَابِلَةُ وَالْحَشْوِيَّةُ أَنَّ الْكَلَامَ الْمُرَكَّبَ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ قَدِيمٌ وَهَذَا الْقَوْلُ أَخَسُّ مِنْ أَنْ يَلْتَفِتَ الْعَاقِلُ إِلَيْهِ وَذَلِكَ أَنِّي قُلْتُ يَوْمًا إِنَّهُ تَعَالَى إِمَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ عَلَى الْجَمْعِ أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ وَالتَّوَالِي، وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْمَسْمُوعَةَ الْمَفْهُومَةَ إِنَّمَا تَكُونُ مَفْهُومَةً إِذَا كَانَتْ حُرُوفُهَا مُتَوَالِيَةً فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ حُرُوفُهَا تُوجَدُ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَذَاكَ لَا يَكُونُ مُفِيدًا الْبَتَّةَ، وَالثَّانِي: يُوجِبُ كَوْنَهَا حَادِثَةً لِأَنَّ الْحُرُوفَ إِذَا كَانَتْ مُتَوَالِيَةً فَعِنْدَ مَجِيءِ الثَّانِي يَنْقَضِي الْأَوَّلُ، فَالْأَوَّلُ حَادِثٌ لِأَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ عَدَمُهُ امْتَنَعَ قِدَمُهُ وَالثَّانِي حَادِثٌ لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ وُجُودُهُ مُتَأَخِّرًا عَنْ وُجُودِ غَيْرِهِ فَهُوَ حَادِثٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى عِبَارَةً عَنْ مُجَرَّدِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ مُحْدَثٌ.

إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ لِلنَّاسِ هاهنا مَذْهَبَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَحَلَّ تِلْكَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ الْحَادِثَةِ هُوَ ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُ الْكَرَّامِيَّةُ. الثَّانِي: أَنَّ مَحَلَّهَا جِسْمٌ مُبَايِنٌ لِذَاتِ الله تعالى كالشجرة وغير وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ.

أَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى صِفَةٌ مُغَايِرَةٌ لِهَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ فَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وَتِلْكَ الصِّفَةُ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ. وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي الشَّيْءِ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.

فَقَالَتِ الْأَشْعَرِيَّةُ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَمِعَ تِلْكَ الصِّفَةَ الْحَقِيقِيَّةَ الْأَزَلِيَّةَ قَالُوا: وَكَمَا لَا يَتَعَذَّرُ رُؤْيَةُ ذَاتِهِ مَعَ أَنَّ ذَاتَهُ لَيْسَتْ جِسْمًا وَلَا عَرَضًا فَكَذَلِكَ لَا يَبْعُدُ سَمَاعُ كَلَامِهِ مَعَ أَنَّ كَلَامَهُ لَا يَكُونُ حَرْفًا وَلَا صَوْتًا. وَقَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ: الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَصْوَاتٌ مُقَطَّعَةٌ وَحُرُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ قَائِمَةٌ بِالشَّجَرَةِ فَأَمَّا الصِّفَةُ الازلية التي ليست بحرف ولا صوت فداك مَا سَمِعَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْبَتَّةَ فَهَذَا تَفْصِيلُ مَذَاهِبِ النَّاسِ فِي سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ تَعَالَى كَلَّمَ مُوسَى وَحْدَهُ أَوْ كَلَّمَهُ مَعَ أَقْوَامٍ آخَرِينَ وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ. لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذَا التَّشْرِيفِ وَالتَّخْصِيصُ بِالذِّكْرِ

<<  <  ج: ص:  >  >>