يُخْفِيهِ لِزَوَالِ مَا كَانَ يَحْمِلُهُ عَلَى الْإِخْفَاءِ فَقَالَ: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الْأَعْرَافِ: ١٦] وَقَالَ:
لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ [الْإِسْرَاءِ: ٦٢] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا كَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا فَمَا بَالُ الْإِنْسَانِ يَمِيلُ إِلَى مَرَاضِيهِ مِنَ الشُّرْبِ وَالزِّنَا، وَيَكْرَهُ مَسَاخِطَهُ مِنَ الْمُجَاهَدَةِ وَالْعِبَادَةِ؟ نَقُولُ سَبَبُ ذَلِكَ اسْتِعَانَةُ الشَّيْطَانِ بِأَعْوَانٍ مِنْ عِنْدِ الْإِنْسَانِ وَتَرْكُ اسْتِعَانَةِ الْإِنْسَانِ بِاللَّهِ، فَيَسْتَعِينُ بِشَهْوَتِهِ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ لِمَصَالِحِ بَقَائِهِ وَبَقَاءِ نَوْعِهِ وَيَجْعَلُهَا سَبَبًا لِفَسَادِ حَالِهِ وَيَدْعُوهُ بِهَا إِلَى مَسَالِكِ الْمَهَالِكِ، وَكَذَلِكَ يَسْتَعِينُ بِغَضَبِهِ الَّذِي خَلَقَهُ الله فيه لِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ عَنْهُ وَيَجْعَلُهُ سَبَبًا لِوَبَالِهِ وَفَسَادِ أَحْوَالِهِ، وَمِيلُ الْإِنْسَانِ إِلَى الْمَعَاصِي كَمَيْلِ الْمَرِيضِ إِلَى الْمَضَارِّ وَذَلِكَ حَيْثُ يَنْحَرِفُ الْمِزَاجُ عَنِ الِاعْتِدَالِ، فَتَرَى الْمَحْمُومَ يُرِيدُ الْمَاءَ الْبَارِدَ/ وَهُوَ يريد فِي مَرَضِهِ. وَمَنْ بِهِ فَسَادُ الْمَعِدَةِ فَلَا يَهْضِمُ الْقَلِيلَ مِنَ الْغِذَاءِ يَمِيلُ إِلَى الْأَكْلِ الْكَثِيرِ وَلَا يَشْبَعُ بِشَيْءٍ وَهُوَ يَزِيدُ فِي مَعِدَتِهِ فَسَادًا، وَصَحِيحُ الْمِزَاجِ لَا يَشْتَهِي إِلَّا مَا يَنْفَعُهُ فَالدُّنْيَا كَالْهَوَاءِ الْوَبِيءِ لَا يَسْتَغْنِي الْإِنْسَانُ فِيهِ عَنِ اسْتِنْشَاقِ الْهَوَاءِ وَهُوَ الْمُفْسِدُ لِمِزَاجِهِ وَلَا طَرِيقَ لَهُ غَيْرُ إِصْلَاحِ الْهَوَاءِ بِالرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ وَالْأَشْيَاءِ الزَّكِيَّةِ وَالرَّشِّ بِالْخَلِّ وَالْمَاوَرْدِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُصْلِحَاتِ، فَكَذَلِكَ الْإِنْسَانُ فِي الدُّنْيَا لَا يَسْتَغْنِي عَنْ أُمُورِهَا وَهِيَ الْمُعِينَاتُ لِلشَّيْطَانِ وَطَرِيقُهُ تَرْكُ الْهَوَى وَتَقْلِيلُ التَّأْمِيلِ وَتَحْرِيفُ الْهَوَى بِالذِّكْرِ الطَّيِّبِ وَالزُّهْدِ، فَإِذَا صَحَّ مِزَاجُ عَقْلِهِ لَا يَمِيلُ إِلَّا إِلَى الْحَقِّ وَلَا يَبْقَى عَلَيْهِ فِي التَّكَالِيفِ كُلْفَةٌ وَيَحْصُلُ لَهُ مَعَ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ أُلْفَةٌ، وَهُنَالِكَ يَعْتَرِفُ الشَّيْطَانُ بِأَنَّهُ ليس له عليه سلطان. ثم قال تعالى:
[[سورة يس (٣٦) : آية ٦١]]
وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١)
لَمَّا مَنَعَ عِبَادَةَ الشَّيْطَانِ حَمَلَ عَلَى عِبَادَةِ الرَّحْمَنِ وَالشَّارِعُ طَبِيبُ الْأَرْوَاحِ كَمَا أَنَّ الطَّبِيبَ طَبِيبُ الْأَشْبَاحِ، وَكَمَا أَنَّ الطَّبِيبَ يَقُولُ لِلْمَرِيضِ لَا تَفْعَلْ كَذَا وَلَا تَأْكُلْ مِنْ ذَا وَهِيَ الْحِمْيَةُ الَّتِي هِيَ رَأْسُ الدَّوَاءِ لِئَلَّا يَزِيدَ مَرَضُهُ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ تَنَاوُلِ الدَّوَاءَ الْفُلَانِيَّ تَقْوِيَةً لقوته المقاومة للمرض، كذلك الشارع منع من الْمُفْسِدَ وَهُوَ اتِّبَاعُ الشَّيْطَانِ وَحَمَلَ عَلَى الْمُصْلِحِ وَهُوَ عِبَادَةُ الرَّحْمَنِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: عِنْدَ الْمَنْعِ مِنْ عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ قَالَ: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يس: ٦٠] لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ أَبْلَغُ الْمَوَانِعِ مِنَ الِاتِّبَاعِ، وَعِنْدَ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ الرَّحْمَنِ لَمْ يَقُلْ إِنَّهُ لَكُمْ حَبِيبٌ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ لَا تُوجِبُ مُتَابَعَةَ الْمَحْبُوبِ بَلْ رُبَّمَا يُورِثُ ذَلِكَ الِاتِّكَالَ عَلَى الْمَحَبَّةِ. فَيَقُولُ إِنَّهُ يُحِبُّنِي فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ فِي تَحْصِيلِ مَرَاضِيهِ، بَلْ ذَكَرَ مَا هُوَ أَبْلَغُ الْأَشْيَاءِ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَذَلِكَ كَوْنُهُ طَرِيقًا مُسْتَقِيمًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي دَارِ الدُّنْيَا فِي مَنْزِلٍ قَفْرٍ مُخَوِّفٍ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى دَارِ إِقَامَةٍ فِيهَا إِخْوَانُهُ، وَالنَّازِلُ فِي بَادِيَةٍ خَالِيَةٍ يَخَافُ عَلَى رُوحِهِ وَمَالِهِ وَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ شَيْءٌ أَحَبَّ مِنْ طَرِيقٍ قَرِيبٍ آمِنٍ، فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا حَاثًّا عَلَى السُّلُوكِ، وَفِي ضِمْنِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا صِراطٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مُجْتَازٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي دَارِ إِقَامَةٍ فَقَوْلُهُ: هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لَا يَكُونُ لَهُ مَعْنًى لِأَنَّ الْمُقِيمَ يَقُولُ وَمَاذَا أَفْعَلُ بِالطَّرِيقِ وَأَنَا مِنَ الْمُقِيمِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مَاذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ طَرِيقًا مُسْتَقِيمًا؟ نَقُولُ الْإِنْسَانُ مُسَافِرٌ إِمَّا مُسَافَرَةَ رَاجِعٍ إِلَى وَطَنِهِ، وَإِمَّا مُسَافَرَةَ تَاجِرٍ لَهُ مَتَاعٌ يَتَّجِرُ فِيهِ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَاللَّهُ هُوَ المقصد، وأما الوطن فلأنه لا يوطن إلا فِي مَأْمَنٍ وَلَا أَمْنَ إِلَّا بِمَلِكٍ لَا يَزُولُ مُلْكُهُ لِأَنَّ عِنْدَ زَوَالِ مُلْكِ الْمُلُوكِ لَا يَبْقَى الْأَمْنُ وَالرَّاحَةُ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي مُلْكُهُ دَائِمٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute