وَأَنَّهُ خَالِقٌ لِلْقُوَى الدَّرَّاكَةِ، وَهُوَ الْمَعْنَى مِنْ قولنا معنى كونه نور السموات والأرض أنه هادي أهل السموات وَالْأَرْضِ، فَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَ مَا قَالَهُ وَبَيْنَ الَّذِي نَقَلْنَاهُ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْمَعْنَى واللَّه أَعْلَمُ.
الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّ للَّه سَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ نُورٍ/ وَظُلْمَةٍ لَوْ كَشَفَهَا لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ كُلَّ مَا أَدْرَكَ بَصَرُهُ»
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ سَبْعُمِائَةٍ وَفِي بَعْضِهَا سَبْعُونَ أَلْفًا، فَأَقُولُ: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَجَلٍّ فِي ذَاتِهِ لِذَاتِهِ كَانَ الْحِجَابُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَحْجُوبِ لَا مَحَالَةَ وَالْمَحْجُوبُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَحْجُوبًا، إِمَّا بِحِجَابٍ مُرَكَّبٍ مِنْ نُورٍ وَظُلْمَةٍ، وَإِمَّا بِحِجَابٍ مُرَكَّبٍ مِنْ نُورٍ فَقَطْ، أَوْ بِحِجَابٍ مُرَكَّبٍ مِنْ ظُلْمَةٍ فَقَطْ، أَمَّا الْمَحْجُوبُونَ بِالظُّلْمَةِ الْمَحْضَةِ فَهُمُ الَّذِينَ بَلَغُوا فِي الِاشْتِغَالِ بِالْعَلَائِقِ الْبَدَنِيَّةِ إِلَى حَيْثُ لَمْ يَلْتَفِتْ خَاطِرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ هَلْ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِوُجُودِ هَذِهِ الْمَحْسُوسَاتِ عَلَى وُجُودِ وَاجِبِ الْوُجُودِ أَمْ لَا؟
وَذَلِكَ لِأَنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ مَا سِوَى اللَّه تَعَالَى مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ مُظْلِمٌ، وَإِنَّمَا كَانَ مُسْتَنِيرًا مِنْ حَيْثُ اسْتَفَادَ النُّورَ مِنْ حَضْرَةِ اللَّه تَعَالَى، فَمَنِ اشْتَغَلَ بِالْجُسْمَانِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ وَصَارَ ذَلِكَ الِاشْتِغَالُ حَائِلًا لَهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى جَانِبِ النُّورِ كَانَ حِجَابُهُ مَحْضَ الظُّلْمَةِ، وَلَمَّا كَانَتْ أَنْوَاعُ الِاشْتِغَالِ بِالْعَلَائِقِ الْبَدَنِيَّةِ خَارِجَةً عَنِ الْحَدِّ وَالْحَصْرِ فَكَذَا أَنْوَاعُ الْحُجُبِ الظُّلْمَانِيَّةِ خَارِجَةٌ عَنِ الْحَدِّ وَالْحَصْرِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمَحْجُوبُونَ بِالْحُجُبِ الْمَمْزُوجَةِ مِنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ اعْلَمْ أَنَّ مَنْ نَظَرَ إِلَى هَذِهِ الْمَحْسُوسَاتِ فَإِمَّا أَنْ يَعْتَقِدَ فِيهَا أَنَّهَا غَنِيَّةٌ عَنِ الْمُؤَثِّرِ، أَوْ يَعْتَقِدَ فِيهَا أَنَّهَا مُحْتَاجَةٌ، فَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا غَنِيَّةٌ فَهَذَا حِجَابٌ مَمْزُوجٌ مِنْ نُورٍ وَظُلْمَةٍ أَمَّا النُّورُ: فَلِأَنَّهُ تَصَوَّرَ مَاهِيَّةَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْغَيْرِ، وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ جَلَالِ اللَّه تَعَالَى وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ النُّورِ وَأَمَّا الظُّلْمَةُ: فَلِأَنَّهُ اعْتَقَدَ حُصُولَ ذَلِكَ الْوَصْفِ فِي هَذِهِ الْأَجْسَامِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْوَصْفِ وَهَذَا ظُلْمَةٌ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا حِجَابٌ مَمْزُوجٌ مِنْ نُورٍ وَظُلْمَةٍ، ثُمَّ أَصْنَافُ هَذَا الْقِسْمِ كَثِيرَةٌ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُمْكِنَ غَنِيٌّ عَنِ الْمُؤَثِّرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَلِّمُ ذَلِكَ لَكِنَّهُ يَقُولُ الْمُؤَثِّرُ فِيهَا طَبَائِعُهَا أَوْ حَرَكَاتُهَا أَوِ اجْتِمَاعُهَا وَافْتِرَاقُهَا أَوْ نِسْبَتُهَا إِلَى حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ أَوْ إِلَى مُحَرِّكَاتِهَا وَكُلُّ هَؤُلَاءِ مِنْ هَذَا القسم.
القسم الثاني: الْحُجُبُ النُّورَانِيَّةُ الْمَحْضَةُ
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ إِلَّا بِوَاسِطَةِ تِلْكَ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ وَلَا نِهَايَةَ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَلِمَرَاتِبِهَا، فَالْعَبْدُ لَا يَزَالُ يَكُونُ مُتَرَقِّيًا فِيهَا فَإِنْ وَصَلَ إِلَى دَرَجَةٍ وَبَقِيَ فِيهَا كَانَ اسْتِغْرَاقُهُ فِي مُشَاهَدَةِ تِلْكَ الدَّرَجَةِ حِجَابًا لَهُ عَنِ التَّرَقِّي إِلَى مَا فَوْقَهَا، وَلَمَّا كَانَ لَا نِهَايَةَ لِهَذِهِ الدَّرَجَاتِ كَانَ الْعَبْدُ أَبَدًا فِي السَّيْرِ وَالِانْتِقَالِ، وَأَمَّا حَقِيقَتُهُ الْمَخْصُوصَةُ فَهِيَ مُحْتَجِبَةٌ عَنِ الْكُلِّ فَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى كَيْفِيَّةِ مَرَاتِبِ الْحَجْبِ، وَأَنْتَ تَعْرِفُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا حَصَرَهَا فِي سَبْعِينَ أَلْفًا تَقْرِيبًا لَا تَحْدِيدًا فَإِنَّهَا لَا نِهَايَةَ لَهَا فِي الحقيقة.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute