للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْكُفَّارِ، فَكَانَتْ هَيْبَتُهُمْ بَاقِيَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاسْتِعْظَامُهُمْ مُقَرَّرًا فِي نُفُوسِهِمْ فَكَانُوا لِهَذَا السَّبَبِ يَهَابُونَهُمْ وَيَخَافُونَ مِنْهُمْ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ أَيْ فِي الثَّبَاتِ مَعَ رَسُولِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ بِتَقْوَاكُمْ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنْ نُصْرَتِهِ أَوْ لَعَلَّ اللَّهَ يُنْعِمُ عَلَيْكُمْ نِعْمَةً أُخْرَى تَشْكُرُونَهَا، فَوَضَعَ الشُّكْرَ مَوْضِعَ الْإِنْعَامِ، لِأَنَّهُ سَبَبٌ له.

ثم قال تعالى:

[[سورة آل عمران (٣) : آية ١٢٤]]

إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤)

وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَنَّ هَذَا الْوَعْدَ حَصَلَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَوْ يَوْمَ أُحُدٍ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ بَيَانُ الْعَامِلِ فِي إِذْ فَإِنْ قُلْنَا هَذَا الْوَعْدُ حَصَلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ الْعَامِلُ فِي إِذْ قَوْلَهُ نَصَرَكُمُ اللَّهُ [آل عمران: ١٢٣] وَالتَّقْدِيرُ: إِذْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ حَصَلَ يَوْمَ أُحُدٍ كَانَ ذَلِكَ بَدَلًا ثَانِيًا مِنْ قَوْلِهِ وَإِذْ غَدَوْتَ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَوْمُ أُحُدٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيِّ وَالْوَاقِدِيِّ وَمُقَاتِلٍ/ وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ:

الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ يَوْمَ بَدْرٍ إِنَّمَا أُمِدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ [الْأَنْفَالِ: ٩] فَكَيْفَ يَلِيقُ مَا ذُكِرَ فِيهِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَخَمْسَةُ آلَافٍ بِيَوْمِ بَدْرٍ؟.

الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ أَلْفًا أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ وَالْمُسْلِمُونَ كَانُوا عَلَى الثُّلُثِ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ بَدْرٍ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَصَارَ عَدَدُ الْكُفَّارِ مُقَابَلًا بِعَدَدِ الْمَلَائِكَةِ مَعَ زِيَادَةِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا جَرَمَ وَقَعَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْكُفَّارِ فَكَذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ كَانَ عَدَدُ الْمُسْلِمِينَ أَلْفًا، وَعَدَدُ الْكُفَّارِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ، فَكَانَ عَدَدُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ عَدَدِ الْكُفَّارِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، كَمَا فِي يَوْمِ بَدْرٍ، فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَنْ يُنَزِّلَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِيَصِيرَ عَدَدُ الْكُفَّارِ مُقَابَلًا بِعَدَدِ الْمَلَائِكَةِ مَعَ زِيَادَةِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَهْزِمُونَهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ كَمَا هَزَمُوهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ جَعَلَ الثَّلَاثَةَ آلَافٍ خَمْسَةَ آلَافٍ لِتَزْدَادَ قُوَّةُ قُلُوبِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَيَزُولَ الْخَوْفُ عَنْ قُلُوبِهِمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا قُلْنَا إِنَّ هَذَا الْوَعْدَ إِنَّمَا حَصَلَ يَوْمَ أُحُدٍ.

الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٢٥] وَالْمُرَادُ وَيَأْتُوكُمْ أَعْدَاؤُكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ، وَيَوْمُ أُحُدٍ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانَ يَأْتِيهِمُ الْأَعْدَاءُ، فَأَمَّا يَوْمُ بَدْرٍ فَالْأَعْدَاءُ مَا أَتَوْهُمْ، بَلْ هُمْ ذَهَبُوا إِلَى الْأَعْدَاءِ.

فَإِنْ قِيلَ: لَوْ جَرَى قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ فِي يَوْمِ أُحُدٍ، ثُمَّ إِنَّهُ مَا حَصَلَ هَذَا الْإِمْدَادُ لَزِمَ الْكَذِبُ.