للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْغَفْلَةِ وَالسَّهْوِ وَالتَّفَاوُتِ فِي إِبْصَارِ الْمُبْصَرَاتِ وَسَمَاعِ الْمَسْمُوعَاتِ، وَلَكِنْ لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ هَذَا التَّفَاوُتَ كَانَ مُمْكِنًا لَكَانَ أَوْلَى الْمَوَاضِعِ بِالِاحْتِرَازِ عَنِ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ هُوَ وَقْتُ حُكْمِ الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَوْضِعُ مَخْصُوصًا بِمَزِيدِ الْعِنَايَةِ لَا جَرَمَ قَالَ فِي خَاتِمَةِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً فَمَا أَحْسَنَ هذه المقاطع الموافقة لهذه المطالع.

[[سورة النساء (٤) : آية ٥٩]]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩)

[في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الرُّعَاةَ وَالْوُلَاةَ بِالْعَدْلِ فِي الرَّعِيَّةِ أَمَرَ الرَّعِيَّةَ بِطَاعَةِ الْوُلَاةِ فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَلِهَذَا

قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: حَقٌّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه وَيُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَحَقٌّ عَلَى الرَّعِيَّةِ أَنْ يَسْمَعُوا وَيُطِيعُوا.

وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الطَّاعَةُ مُوَافَقَةُ الْإِرَادَةِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: الطَّاعَةُ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ لَا مُوَافَقَةُ الْإِرَادَةِ. لَنَا أَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ مُوَافَقَةَ الْأَمْرِ طَاعَةٌ، إِنَّمَا النِّزَاعُ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا أَمْ لَا؟ فَإِذَا دَلَلْنَا عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ قَدْ لَا يَكُونُ مُرَادًا ثَبَتَ حِينَئِذٍ أَنَّ الطَّاعَةَ لَيْسَتْ عِبَارَةً عَنْ مُوَافَقَةِ الْإِرَادَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ اللَّه قَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَا يُرِيدُ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّه وَخَبَرَهُ قَدْ تَعَلَّقَا بِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُوجَدُ مِنْ أَبِي لَهَبٍ الْبَتَّةَ، وَهَذَا الْعِلْمُ وَهَذَا الْخَبَرُ يَمْتَنِعُ زَوَالُهُمَا وَانْقِلَابُهُمَا جَهْلًا، وَوُجُودُ الْإِيمَانِ مُضَادٌّ وَمُنَافٍ لِهَذَا الْعِلْمِ وَلِهَذَا الْخَبَرِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ مُحَالٌ، فَكَانَ صُدُورُ الْإِيمَانِ مِنْ أَبِي لَهَبٍ مُحَالًا. واللَّه تَعَالَى عَالِمٌ بِكُلِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَيَكُونُ عَالِمًا بِكَوْنِهِ مُحَالًا، وَالْعَالِمُ بِكَوْنِ الشَّيْءِ مُحَالًا لَا يَكُونُ مُرِيدًا لَهُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مُرِيدٍ لِلْإِيمَانِ مِنْ أَبِي لَهَبٍ وَقَدْ أَمَرَهُ بِالْإِيمَانِ فَثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ يُوجَدُ بِدُونِ الْإِرَادَةِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ طَاعَةَ اللَّه عِبَارَةٌ عَنْ مُوَافَقَةِ أَمْرِهِ لَا عَنْ مُوَافَقَةِ إِرَادَتِهِ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَى أَنَّ الطَّاعَةَ اسْمٌ لِمُوَافَقَةِ الْإِرَادَةِ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:

رُبَّ مَنْ أَنْضَجْتُ غَيْظًا صَدْرَهُ ... قَدْ تَمَنَّى لِيَ مَوْتًا لَمْ يُطَعْ

رَتَّبَ الطَّاعَةَ عَلَى التَّمَنِّي وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْإِرَادَةِ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعَاقِلَ عَالِمٌ بِأَنَّ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَا يَلِيقُ مُعَارَضَتُهُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحُجَّةِ الرَّكِيكَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ آيَةٌ شَرِيفَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَكْثَرِ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ زَعَمُوا أَنَّ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ أَرْبَعٌ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَقْرِيرِ هَذِهِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ بِهَذَا التَّرْتِيبِ. أَمَّا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَقَدْ وَقَعَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ.

فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ هِيَ طَاعَةُ اللَّه، فَمَا مَعْنَى هَذَا الْعَطْفِ؟

قُلْنَا: قَالَ الْقَاضِي: الْفَائِدَةُ فِي ذَلِكَ بَيَانُ الدَّلَالَتَيْنِ، فَالْكِتَابُ يَدُلُّ عَلَى أَمْرِ اللَّه، ثُمَّ نَعْلَمُ مِنْهُ أَمْرَ الرَّسُولِ لَا مَحَالَةَ، وَالسُّنَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَمْرِ الرَّسُولِ، ثُمَّ نَعْلَمُ مِنْهُ أمر اللَّه لا محالة، فثبت بما ذكرناه أَنَّ قَوْلَهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ مُتَابَعَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يَدُلُّ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ، وَالدَّلِيلُ

<<  <  ج: ص:  >  >>