للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالوجه الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَجْحَدُونَ كَوْنَ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا فَلَا يَضِيقُ قَلْبُكَ بِسَبَبِهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا أَنْ تُنْذِرَ إِلَى أَنْ يَحْصُلَ الْإِيمَانُ فِي صُدُورِهِمْ وَلَسْتَ بِقَادِرٍ عَلَيْهِمْ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ، قَادِرٌ عَلَى هِدَايَتِهِمْ بِالتَّخْلِيقِ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَيَكُونُ الْمَعْنَى لَيْسَ لَكَ إِلَّا الْإِنْذَارُ، وَأَمَّا الْهِدَايَةُ فَمِنَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الظَّاهِرِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ذَكَرُوا هَاهُنَا أَقْوَالًا: الْأَوَّلُ: الْمُنْذِرُ وَالْهَادِي شَيْءٌ وَاحِدٌ وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ مُنْذِرٌ عَلَى حِدَةٍ وَمُعْجِزَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرُ مُعْجِزَةِ الْآخَرِ. الثَّانِي: الْمُنْذِرُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْهَادِي هُوَ اللَّهُ تَعَالَى رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ.

وَالثَّالِثُ: الْمُنْذِرُ النَّبِيُّ. وَالْهَادِي عَلِيٌّ.

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ فَقَالَ: «أَنَا الْمُنْذِرُ» ثُمَّ أَوْمَأَ إِلَى مَنْكِبِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ: «أَنْتَ الْهَادِي يَا عَلِيُّ بِكَ يَهْتَدِي المهتدون من بعدي» .

[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٨ الى ١٠]

اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠)

[فِي قَوْلُهُ تَعَالَى اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

المسألة الْأُولَى: فِي وَجْهِ النَّظْمِ وُجُوهٌ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ طَلَبُوا آيَاتٍ أُخْرَى غَيْرَ مَا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ فَيَعْلَمُ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ هَلْ طَلَبُوا الْآيَةَ الْأُخْرَى لِلِاسْتِرْشَادِ وَطَلَبِ الْبَيَانِ أَوْ لِأَجْلِ التَّعَنُّتِ وَالْعِنَادِ، وَهَلْ يَنْتَفِعُونَ/ بِظُهُورِ تِلْكَ الْآيَاتِ، أَوْ يَزْدَادُ إِصْرَارُهُمْ وَاسْتِكْبَارُهُمْ، فَلَوْ عَلِمَ تَعَالَى أَنَّهُمْ طَلَبُوا ذَلِكَ لِأَجْلِ الِاسْتِرْشَادِ وَطَلَبِ الْبَيَانِ وَمَزِيدِ الْفَائِدَةِ، لَأَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا مَنَعَهُمْ عَنْهُ، لَكِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ إِلَّا لِأَجَلِ مَحْضِ الْعِنَادِ لَا جَرَمَ أَنَّهُ تَعَالَى مَنَعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا [يُونُسَ: ٢٠] وَقَوْلِهِ:

قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ. [العنكبوت: ٥٠] وَالثَّانِي: أَنَّ وَجْهَ النَّظْمِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قال: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ [الرعد: ٥] فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ بِسَبَبِ أَنَّ أَجْزَاءَ أَبْدَانِ الْحَيَوَانَاتِ عِنْدَ تَفَرُّقِهَا وَتَفَتُّتِهَا يَخْتَلِطُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَلَا يَبْقَى الِامْتِيَازُ فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا لَا يُبْقِي الِامْتِيَازَ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَكُونُ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، أَمَّا فِي حَقِّ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، فَإِنَّهُ يُبْقِي تِلْكَ الْأَجْزَاءَ بِحَيْثُ يَمْتَازُ بَعْضُهَا عَنِ الْبَعْضِ، ثُمَّ احْتَجَّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ.

الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ [الرعد: ٦] وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ فَهُوَ تَعَالَى إِنَّمَا يُنْزِلُ الْعَذَابَ بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ فِيهِ مَصْلَحَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

المسألة الثَّانِيَةُ: لَفْظُ «مَا» فِي قَوْلِهِ: مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، فَإِنْ كَانَتْ مَوْصُولَةً، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُهُ مِنَ الْوَلَدِ أَنَّهُ مِنْ أَيِّ الْأَقْسَامِ أَهُوَ ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى وَتَامٌّ أَوْ نَاقِصٌ وَحَسَنٌ أَوْ قَبِيحٌ وَطَوِيلٌ أَوْ قَصِيرٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ الْحَاضِرَةِ وَالْمُتَرَقَّبَةِ فِيهِ.

ثم قال: وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَالْغَيْضُ هُوَ النُّقْصَانُ سَوَاءٌ كَانَ لَازِمًا أَوْ مُتَعَدِّيًا يُقَالُ: غَاضَ الماء وغضته

<<  <  ج: ص:  >  >>