للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْها يَعُودُ إِلَى الْقُرَى شَبَّهَ مَا بَقِيَ مِنْ آثَارِ الْقُرَى وَجُدْرَانِهَا بِالزَّرْعِ الْقَائِمِ عَلَى سَاقِهِ وَمَا عَفَا مِنْهَا وَبَطِرَ بِالْحَصِيدِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ تِلْكَ الْقُرَى بَعْضُهَا بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ وَبَعْضُهَا هَلَكَ وَمَا بَقِيَ مِنْهُ أَثَرٌ أَلْبَتَّةَ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ وَالْإِهْلَاكِ، وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ. الثَّانِي: أَنَّ الَّذِي نَزَلَ بِالْقَوْمِ لَيْسَ بِظُلْمٍ مِنَ اللَّه بَلْ هُوَ عَدْلٌ وَحِكْمَةٌ، لِأَجْلِ أَنَّ الْقَوْمَ أَوَّلًا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِسَبَبِ إِقْدَامِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي فَاسْتَوْجَبُوا لِأَجْلِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ مِنَ اللَّه ذَلِكَ الْعَذَابَ. الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: يُرِيدُ وَمَا نَقَصْنَاهُمْ مِنَ النَّعِيمِ فِي الدُّنْيَا وَالرِّزْقِ، وَلَكِنْ نَقَصُوا حَظَّ أَنْفُسِهِمْ حَيْثُ اسْتَخَفُّوا بِحُقُوقِ اللَّه تَعَالَى.

ثُمَّ قَالَ: فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أَيْ مَا نَفَعَتْهُمْ تِلْكَ الْآلِهَةُ فِي شَيْءٍ أَلْبَتَّةَ.

ثُمَّ قَالَ: وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: غَيْرَ تَخْسِيرٍ. يُقَالُ: تَبَّ إِذَا خَسِرَ وَتَبَّبَهُ غَيْرُهُ إِذَا أَوْقَعَهُ فِي الْخُسْرَانِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِي الْأَصْنَامِ أَنَّهَا تُعِينُ عَلَى تَحْصِيلِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُمْ عِنْدَ مَسَاسِ الْحَاجَةِ إِلَى الْمُعِينِ مَا وَجَدُوا مِنْهَا شَيْئًا لَا جَلْبَ نَفْعٍ وَلَا دَفْعَ ضُرٍّ، ثُمَّ كَمَا لَمْ يَجِدُوا ذَلِكَ فَقَدْ وَجَدُوا ضِدَّهُ، وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ/ الِاعْتِقَادَ زَالَ عَنْهُمْ بِهِ مَنَافِعُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَجَلَبَ إِلَيْهِمْ مَضَارَّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ موجبات الخسران.

[سورة هود (١١) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٤]

وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَالْجَحْدَرِيُّ: إِذْ أَخَذَ الْقُرَى بِأَلِفٍ وَاحِدَةٍ، وَقَرَأَ الباقون بألفين.

المسألة الثانية: [في بيان أَنَّ عَذَابَهُ لَيْسَ بِمُقْتَصِرٍ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كِتَابِهِ بِمَا فَعَلَ بِأُمَمِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَمَّا خَالَفُوا الرُّسُلَ وَرَدُّوا عَلَيْهِمْ مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَحَلَّ بِهِمُ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا قَالَ بَعْدَهُ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ فَبَيَّنَ أَنَّ عَذَابَهُ لَيْسَ بِمُقْتَصِرٍ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ، بَلِ الْحَالُ فِي أَخْذِ كُلِّ الظَّالِمِينَ يَكُونُ كَذَلِكَ وَقَوْلُهُ: وَهِيَ ظالِمَةٌ الضَّمِيرُ فِيهِ عَائِدٌ إِلَى الْقُرَى وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ عَائِدٌ إِلَى أَهْلِهَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً [الْأَنْبِيَاءِ: ١١] وَقَوْلُهُ: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها [الْقَصَصِ: ٥٨] .

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ أَخْذِ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَأْخُذُ جَمِيعَ الظَّالِمِينَ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ أَتْبَعَهُ بِمَا يَزِيدُهُ تَأْكِيدًا وَتَقْوِيَةً فَقَالَ: إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ فَوَصَفَ ذَلِكَ الْعَذَابَ بِالْإِيلَامِ وَبِالشِّدَّةِ، وَلَا مُنَغِّصَةَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا الْأَلَمَ، وَلَا تَشْدِيدَ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَفِي الْوَهْمِ وَالْعَقْلِ إِلَّا تَشْدِيدَ الْأَلَمِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى ظُلْمٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَدَارَكَ ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ لِئَلَّا يَقَعَ فِي الْأَخْذِ الَّذِي وَصَفَهُ اللَّه تَعَالَى بِأَنَّهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُظَنَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ/ مُخْتَصَّةٌ بِأُولَئِكَ المتقدمين،

<<  <  ج: ص:  >  >>