للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِذَا قُلْنَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ فَهَذَا يَقْتَضِي تَعْلِيقَ حُدُوثِ هَذَا الْجَزَاءِ عَلَى حُصُولِ الْمَشِيئَةِ فَلَوْ كَانَتِ الْمَشِيئَةُ قَدِيمَةً لَكَانَ الشَّرْطُ قَدِيمًا وَيَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ الشَّرْطِ حُصُولُ الْمَشْرُوطِ فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْجَزَاءِ قَدِيمًا.

وَالْحِسُّ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُحْدَثٌ فَوَجَبَ كَوْنُ الشَّرْطِ حَادِثًا وَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ هُوَ الْمَشِيئَةَ لَزِمَ الْقَوْلُ بِكَوْنِ الْمَشِيئَةِ حَادِثَةً. هَذَا تَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ.

وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَشِيئَةَ وَإِنْ كَانَتْ قَدِيمَةً إِلَّا أَنَّ تَعَلُّقَهَا بِإِحْدَاثِ ذَلِكَ الْمُحْدَثِ فِي الْحَالِ إِضَافَةٌ حَادِثَةٌ وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي لِصِحَّةِ هَذَا الْكَلَامِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ قَالَ أَصْحَابُنَا الْمُرَادُ يَجْهَلُونَ بِأَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ وَبِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. وَقَالَ الْمُعْتَزِلَةُ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ جَهِلُوا أَنَّهُمْ يَبْقَوْنَ كُفَّارًا عِنْدَ ظُهُورِ الْآيَاتِ الَّتِي طَلَبُوهَا وَالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ يَظُنُّونَ ذلك.

[[سورة الأنعام (٦) : آية ١١٢]]

وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢)

[قَوْلُهُ تَعَالَى وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ وَكَذلِكَ مَنْسُوقٌ عَلَى شَيْءٍ وَفِي تَعْيِينِ ذَلِكَ الشَّيْءِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ أَنَّهُ مَنْسُوقٌ عَلَى قَوْلِهِ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام ١٠٨] اي كما فعلنا ذلك كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا الثَّانِي مَعْنَاهُ جَعَلْنَا لَكَ عَدُوًّا كَمَا جَعَلْنَا لِمَنْ قَبْلَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ كَذلِكَ عَطْفًا/ عَلَى مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لَهُ أَعْدَاءً.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي جَعَلَ أُولَئِكَ الْأَعْدَاءَ أَعْدَاءً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الْعَدَاوَةَ مَعْصِيَةٌ وَكُفْرٌ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ خَالِقَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْجَعْلِ الْحُكْمُ وَالْبَيَانُ فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا حَكَمَ بِكُفْرِ إِنْسَانٍ قِيلَ إِنَّهُ كَفَّرَهُ وَإِذَا أَخْبَرَ عَنْ عَدَالَتِهِ قِيلَ إِنَّهُ عَدَّلَهُ فَكَذَا هَاهُنَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَوْنَهُمْ أَعْدَاءً لَهُ لَا جَرَمَ قَالَ إِنَّهُ جَعَلَهُمْ أَعْدَاءً لَهُ وَأَجَابَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرْسَلَ مُحَمَّدًا صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ إِلَى الْعَالَمِينَ وَخَصَّهُ بِتِلْكَ الْمُعْجِزَةِ حَسَدُوهُ وَصَارَ ذَلِكَ الْحَسَدُ سَبَبًا لِلْعَدَاوَةِ الْقَوِيَّةِ فَلِهَذَا التَّأْوِيلِ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمْ أَعْدَاءً لَهُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْمُتَنَبِّي

فَأَنْتَ الَّذِي صَيَّرْتَهُمْ لِي حُسَّدًا

وَأَجَابَ الْكَعْبِيُّ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الأنبياء بعداوتهم وَأَعْلَمَهُمْ كَوْنَهُمْ أَعْدَاءً لَهُمْ وَذَلِكَ يَقْتَضِي صَيْرُورَتَهُمْ أَعْدَاءً لِلْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَلِهَذَا الْوَجْهِ جَازَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمْ أَعْدَاءً لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَجْوِبَةَ ضَعِيفَةٌ جِدًّا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَفْعَالَ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى الدَّوَاعِي وَهِيَ حَادِثَةٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ صَحَّ مَذْهَبُنَا.

ثُمَّ هَاهُنَا بَحْثٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْعَدَاوَةَ وَالصَّدَاقَةَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَحْصُلَ بِاخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَبْلُغُ فِي عَدَاوَةِ غَيْرِهِ إِلَى حَيْثُ لَا يَقْدِرُ الْبَتَّةَ عَلَى إِزَالَةِ تِلْكَ الْحَالَةِ عَنْ قَلْبِهِ بَلْ قَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِخْفَاءِ آثَارِ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>